ناقش العميل المسؤول السابق في المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) دوغلاس لندن والذي عمل لمدة 34 عاما، شغل خلالها عددا من محطات سي آي إيه بالشرق الأوسط وأنهى عمله كمدير لمحطة جنوب وجنوب شرق آسيا، أن الانتصارات العسكرية التكتيكية ضد الأعداء لا تنهي الحروب وتحقق انتصارات.
وقال إن الولايات المتحدة تواجه مخاطر عظيمة في الشرق الأوسط وأكثر مما يتخيل البعض.
وتساءل في البداية عمن ينتصر في الحرب بين إسرائيل، إيران وجماعاتها الوكيلة؟ أجاب بنيامين نتنياهو على هذا السؤال، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي أن الحرب التي وسع مداها لتشمل حزب الله في لبنان مبررة وأنه ينتصر بها. واعتبر الكاتب أن هذا الكلام لا يختلف عن الخطاب الصادر عن الجانب الآخر، سواء من حماس أو حزب الله أو إيران التي احتفلت بمقاومتها ضد إسرائيل وحلفائها.
ويقول الجاسوس السابق: ” لقد أمضيت العديد من سنوات عملي التي تزيد على 34 عاما في الخدمة السرية في سي آي إيه، حيث كنت أعيش في هذه المنطقة والتقيت بعملائنا الإيرانيين وحزب الله والفلسطينيين، وعملت مع نظرائنا الإسرائيليين والعرب. ومن بين الدروس الدائمة التي تعلمتها أن قياس الربح والخسارة في الشرق الأوسط لا يكون واضحا في كثير من الأحيان في لحظته، وأن تداعيات أي حدث واحد تتكشف أحيانا على مدى أجيال”.
وأشار إلى هجمات إيران الصاروخية الأخيرة ضد إسرائيل وانتظارنا الرد الإسرائيلي، الذي قد يجر الولايات المتحدة إلى المواجهة. مشيرا إلى العملية في يافا التي قتل فيها 8 أشخاص وإصابة سبعة بجروح خطيرة والتي أعلنت حماس المسؤولية عنها، أنها إشارة عن تكيف حماس وحزب الله والحرس الثوري الإيراني لما يطلق عليه الإستراتيجية “غير المتناسقة”.
وضمن هذه الإستراتيجية يمجد أعداء إسرائيل خسائرهم ويبجلون شهداءهم. وعندما يجدون أن قدراتهم التقليدية غير متكافئة يلجأون إلى حرب العصابات، على طريقة ماوتسي تونغ في الصين، وهوشي منه في فيتنام أو الأساليب الأخرى التي تبنتها الحركات الجهادية مثل العمليات الانتحارية والهجمات المعقدة ضد أهداف لينة وغير محمية ومدنية. ويقول إن هذا التحول جار بالفعل، ويمثل بطرق عدة خطرا أكبر على الولايات المتحدة من إسرائيل. ففي ثمانينيات القرن الماضي، فجر حزب الله السفارة الأمريكية في لبنان وهاجم مشاة البحرية في بيروت واختطف غربيين وعذب رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية حتى الموت واختطف رحلات جوية تجارية.
كما أسفر هجوم حزب الله عام 1994 على مجمع يهودي في الأرجنتين عن مقتل 85 شخصا. وبدعم من مدربي الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والمتفجرات أدى تفجير أبراج الخبر في المملكة العربية السعودية عام 1996 لمقتل 19 من الجنود الأمريكيين.
ويقول لندن إنه من خلال تلك الهجمات، نجح حزب الله وإيران في طرد الوجود العسكري الأمريكي من لبنان دون الحاجة إلى صواريخ أو طائرات بدون طيار أو جيوش نظامية.
ويضيف أن الداعين اليوم الولايات المتحدة وإسرائيل لاتخاذ قرار من جانب واحد وتنفيذ هجوم كبير ضد إيران، يتناسون دروس الماضي.
ويجب علينا ألا ننسى أن الولايات المتحدة لديها منشآت وأفراد وممتلكات في لبنان والعراق وسوريا وأماكن أخرى في جميع أنحاء الشرق الأوسط لا تمتلكها إسرائيل، أي السفارات والقواعد العسكرية وأعدادا كبيرة من الشركات والمنظمات والمواطنين الأمريكيين.
ولدى إيران وحزب الله قائمة أهداف أمريكية أكثر بكثير من الأهداف الإسرائيلية للاختيار من بينها في أماكن عدة من الشرق الأوسط وأماكن أخرى، كما أن لديهما قدرات ومزايا لا تمتلكها الولايات المتحدة.
ويرى الكاتب أن الجماعات الإرهابية التقليدية تترك أثرا وبصمات قليلة غير خسارتها قادتها وعناصرها الذين يعملون بالسر، ولكن حزب الله أصبح حالة مختلفة. فقد تطور الحزب إلى جماعة سياسية وعسكرية كبرى وأصبح للحزب منافع سياسية وعسكرية واقتصادية له ولراعيته إيران. وقد خلق هذا التطور ما يطلق عليه المحللون في الاستخبارات “أسهما” أي الاستثمارات الملموسة، سواء كانت مادية أو سياسية أو اقتصادية، وجلبت معها نقاط الضعف التي لم تكن موجودة في الماضي.
واليوم، لم يعد حزب الله يخسر المزيد فحسب، بل وجعل من السهل نسبيا على أعدائه العثور عليه، كما أثبتت إسرائيل في الآونة الأخيرة.
ويضيف أن الحرب جعلت من احتمالات موافقة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي على تسليح البرنامج النووي لبلاده. وكلما تكبدت إيران خسائر غير متناسبة نتيجة للمواجهة مع إسرائيل وراعيتها الولايات المتحدة، كلما كان قراره أسهل. ورغم أنه من المرجح أن تسعى إيران إلى إبقاء قرارها وخططها لتسليح البلاد سرا، يتوقع لندن أن تكتشف قدرات الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية هذا الأمر في وقت قريب، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ويجيب أنه في حالة التزمت الولايات المتحدة بتهديداتها السابقة والتي أكدت عليها إسرائيل، ومفادها أن حصول إيران على الأسلحة النووية لن يتم التسامح معه، فسيصبح الصراع العسكري الكبير أمرا لا مفر منه.
وبحسب الكاتب سوف تجد كل من إيران والولايات المتحدة نفسيهما في مأزق لا مفر منه. ولن يكون بوسع خامنئي أن يتحمل الاستسلام سياسيا بتغيير مساره، وسوف تضطر واشنطن إلى اتخاذ تحرك عسكري.
ويضيف أنه “في ظل القتال الحالي، لا حاجة للتساؤل إن كان سيتحول إلى حرب شاملة. ونحن لا نشهد حسابات خاطئة تغذي التصعيد غير المقصود، ولا ينبغي لنا أن نفترض أن الأطراف المتحاربة تتقاسم مصلحة مشتركة في الحد من التصعيد. إن إسرائيل منخرطة بشكل كامل في الحرب وتدفع إيران وحزب الله إلى القيام بنفس الشيء. وبالنسبة لنتنياهو، فإن ما قد بدأ كقرار مدفوع بالرغبة لتأجيل المحاسبة السياسية التي كان سيواجهها لولا هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، قد تحول إلى شيء أكبر”.
ويعلق الكاتب أن المسؤولين الإسرائيليين صوروا عملياتهم الأخيرة بانها للدفاع عن النفس، مع أن معظم العمليات كان يخطط لها منذ وقت طويل. وقد اعترفوا أنهم كانوا يعرفون مكان زعيم حزب الله حسن نصر الله ولكنهم تجنبوا ضربه، بناء على مقولة “الشيطان الذي تعرف أفضل من الذي لا تعرفه”، كما أن تفجير أجهزة الاتصال كان يعد له قبل سنوات. ويعلق الكاتب أن تغير موقف نتنياهو ربما نبع من أنه لم يعد راغبا في متابعة الخيارات الدبلوماسية وتوسيع النزاع إلى إيران وإجبار الولايات المتحدة على الدخول فيها.
ويؤكد لندن أنه ومع بقاء أسابيع حتى الانتخابات الأمريكية، فلم يعد لدى نتنياهو ما يقلق بشأنه أو العواقب التي سيتركها قراره على البيت الأبيض. وتساءل: ماذا يمكن للرئيس جو بايدن أن يفعله حقا لفرض أي ثمن على نتنياهو قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية؟ واعتبر إن أي إجراءات عقابية ستكون بمثابة هدية للجمهوريين الذين يزعمون بالفعل أن الرئيس كان متساهلا مع إيران ووكلائها.
إلا أن الحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل، كما يقول لندن، لن تدمر إيران ولا جماعاتها الوكيلة ولن تردع أي منها. كما أن المزيد من التهديدات ستعقد من أي عملية استباقية في المستقبل أو الحل الدبلوماسي.
وشدد الكاتب على أنه عادة ما يدفع دورة العنف في المنطقة العاطفة والانتقام والحفاظ على ماء الوجه، وليس المنطق والبراغماتية. ووفقه يعتمد النظام الديني القمعي في طهران على فرض الخوف في الداخل والالتزام بتدمير إسرائيل ومقاومة الولايات المتحدة لإضفاء طابع على شرعيته وبقائه السياسي. ويجب على الجماعات التي تطلق على نفسها “منظمات المقاومة” الاستمرار بالمقاومة حتى تبقى مهمة وتحتفظ بشرعيتها. وبالنسبة لها فخسارة جولة في الحرب تعزز من أهمية المهمة.
ويؤكد أنه في هذا السياق، تعتبر أساليب إسرائيل مهمة بالنسبة للولايات المتحدة. فمع الخسائر الهائلة التي لحقت باللبنانيين والفلسطينيين والدمار المادي الذي لحق بهم، خلقت إسرائيل ضغوطا إضافية على الحلفاء المحتملين بين الدول العربية الإقليمية لدفعهم إلى الابتعاد عن إسرائيل، وربما الولايات المتحدة أيضا. وهذا على الرغم من حقيقة مفادها أن مثل هذه الدول لا تحب حماس أو حزب الله.
ويقول الكاتب إنه “بالنظر إلى الصور التي رأيناها في الأسابيع الماضية، لا يمكن لتلك الدول أن توسع اتفاقيات إبراهيم التي تم التفاوض عليها خلال إدارة ترامب ولا يمكن رؤيتها تقيم تحالفا مع إسرائيل. ومع كل معركة جديدة وصور المباني السكنية المنهارة وعمال الإنقاذ الذين يسحبون جثث النساء والأطفال من تحت الأنقاض، تصبح فرص الاعتراف السعودي بإسرائيل بعيدة، ومعها، آمال التوصل إلى تسوية أوسع للصراع”.
وتساءل: لماذا هذا مهم للغاية؟ بعد كل شيء، أقامت مصر والأردن والمغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة علاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل. ويقول تكمن أهمية ذلك في المكانة المركزية للسعودية في العالم العربي بسبب وصايتها على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة ومواردها النفطية الهائلة وثرواتها التي تعادل القوة والنفوذ. ويرى أن الاعتراف السعودي كجزء من صفقة كبرى تعترف فيها إسرائيل بالدولة الفلسطينية في حل “الدولتين” المشروع، من شأنه أن يحدث تغييرا تحويليا في المنطقة، ومعها العالم.
وأضاف أن الحرب الإقليمية هذه ستترك تداعيات على الولايات المتحدة وبطرق أخرى: المنافسة الاستراتيجية العالمية. فقد تضع الحرب إيران والولايات المتحدة في مواجهة مباشرة، مما يمهد الطريق لمواجهة بين قوى كبرى عبر الوكالة مع التدخل المباشر أو السري من جانب روسيا والصين أيضا. وعلاوة على ذلك، فإن عجز الولايات المتحدة عن التأثير على إسرائيل يقوض بالفعل مصداقيتها وفائدتها لدى الدول العربية الأخرى، وهو ما يمتد إلى ما أبعد من الصراع وعبر مجموعة من القضايا التي تشمل المنافسة الاستراتيجية والطاقة والاقتصاد، والمناخ.
ويقول إنه خلال خدمته الطويلة في سي آي إيه: ” شهدت ودعمت وشاركت في حروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وسوريا والصومال وليبيا والبلقان، ناهيك عن الضربات الأمريكية المتفرقة ضد إيران في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. وقد كسبت الولايات المتحدة بأغلب المعارك، ولكن يمكن القول، باستثناء حرب الخليج الأولى التي حررت الكويت، والزعامة الأمريكية في إنهاء الهجوم ضد صرب البوسنة، أننا خسرنا معظم الحروب، على الرغم من امتلاكنا لقدرات عسكرية متفوقة”.
ويختم لندن بالقول إنه في النهاية يجب على الأمريكيين والإسرائيليين أن يقرروا ما يعتبرونه أمنا وما هي الحلول القابلة للتحقيق والطويلة الأمد المتاحة بأقل التكاليف. إن قتل العدو والفوز بالمعارك لا يكفي وحده لكسب الحروب، على الأقل ليس اليوم. فهناك طرق أفضل لإسرائيل والولايات المتحدة لهزيمة حزب الله وتحييد إيران. ولكن إذا لم يغير نتنياهو تكتيكاته وإذا كانت واشنطن غير قادرة على الانفصال عن هذه التكتيكات، فإن التكاليف لن يدفعها الإسرائيليون فحسب، بل والأمريكيون أيضا.
تعليقات الزوار
لا تعليقات