أشعلت تصريحات الشيخ عبد الله جاب الله، زعيم جبهة العدالة والتنمية والوجه الإسلامي البارز، نقاشًا واسعًا داخل الساحة السياسية والدعوية في الجزائر، بعدما قدّم نفسه باعتباره المؤسس الفعلي لتيار الإخوان المسلمين في البلاد، عوض ما هو دارج من أن الراحل محفوظ نحناح كان السبّاق لذلك.
وفي شهادته التي بثت في بودكاست “للتاريخ” على قناة “الخبر الإلكترونية”، أكد جاب الله أنه المؤسس الحقيقي لتيار الإخوان المسلمين في البلاد “كفكرة لا كتنظيم”، نافياً أن يكون هناك أي تنظيم طلابي للإخوان داخل الجامعات قبل 1985 غير جماعته التي عُرفت آنذاك بـ”جماعة جاب الله”.
وأوضح الشيخ أن تبنيه للفكر الإخواني جاء بعد الاطلاع على مؤلفات منظريه، دون أن يرتبط تنظيمياً بمصر أو بالتنظيم العالمي، مؤكداً أنه لم يصرح يوماً بأنه ممثل لجماعة الإخوان، بل إنه صاحب المبادرة في إدخال الفكرة للجزائر في إطار عمل جماعي بدأه سنة 1974.
ورغم أن جاب الله أقر بوجود دعاة بارزين مثل محفوظ نحناح ومحمد بوسليماني، إلا أنه أكد أنهم كانوا يتحركون كأفراد، فيما كانت الساحة الطلابية خالية من أي تنظيم منظم لهم قبل منتصف الثمانينيات.
وأشار إلى أن تسميات مثل “جماعة الشرق” أو “جماعة الجزأرة” لم تصدر من أصحابها، بل أطلقها الشيخ محفوظ نحناح لوصف جماعته وجماعة مالك بن نبي. والمعروف أن كلمة “الجزأرة” مشتقة من الجزائر وتعني رفض أي وصاية تنظيمية أو فكرية من الخارج، وهي جماعة اتخذت من المفكر مالك بن نبي مرجعا لها. كما اتهم جاب الله نحناح بإشاعة خبر انشقاقه عن الإخوان أثناء سجنه سنة 1985 على خلفية “أحداث الصومعة”، لاستمالة أنصاره.
وفي حديثه عن محاولات الوحدة بين الإسلاميين وأسباب فشلها، تحدث عن اجتماع موسم الحج سنة 1987 (سنتان قبل فتح التعددية الحزبية في الجزائر) تحت إشراف المرشد العام حامد أبو النصر، قائلاً إن نحناح تغيب واكتفى برسالة قلل فيها من شأن الحاضرين واعتبر نفسه الممثل الأوحد للإسلاميين في الجزائر.
هذه التصريحات، سرعان ما فجرت ردود فعل قوية من أنصار نحناح، الذين أكدوا أنه المؤسس الفعلي لجماعة الإخوان في الجزائر، وبلغ الجدل حد السجال الحاد على منصات التواصل، ما دفع أبو جرة سلطاني، خليفة نحناح على رأس حركة مجتمع السلم، إلى التدخل.
وفي تدوينة له، قال سلطاني إن السجن طال نحناح قبل جاب الله؛ فالأول اعتقل سنة 1976 بعد نشر بيان “إلى أين يا بومدين؟” وقطع أعمدة الهاتف بين الناحية العسكرية الأولى ووزارة الدفاع (عمل منسوب لنحناح وجماعته)، بينما سجن جاب الله سنة 1982 بعد أحداث الجامعة المركزية. وروى لقاءاته بهما، معتبراً أن لكل منهما أولويات مختلفة: جاب الله ركز على طرد الشيوعية من الجامعة، ونحناح سعى لبناء قاعدة صلبة للدعوة.
واستنتج أن الرجلين تقاسما النشاط الدعوي جغرافياً دون اتفاق مسبق، لكن الخلاف التنظيمي كان واضحاً؛ فجماعة جاب الله اعتمدت “عالمية الفكرة وإقليمية التنظيم بغير غطاء ولا تزكية”، فيما تبنى نحناح “شمولية الفكرة والتنظيم” بتزكية عالمية منذ 1974، قبل أن يقطع السجن هذا الامتداد. ومع تبادل الأدوار بين السجن والحرية بين الرجلين، اكتسح تنظيم نحناح الساحة منتصف الثمانينيات، وبدأت بعدها محاولات التنسيق بين التيارات الثلاثة: الإقليميين، والعالميين، و”الجزأرة”.
بدوره، قدّم عز الدين جرافة، أحد قدامى القادة الإسلاميين، شهادة مطولة نفى فيها دقة القول بأن جاب الله أسس “جماعة الإخوان المسلمين” في الجزائر، مميزاً بين “الفكر والثقافة” من جهة، و”التنظيم” من جهة أخرى. وأكد أن جماعة الشرق استلهمت من فكر حسن البنا وسيد قطب وغيرهما، لكنها لم ترتبط تنظيمياً بالإخوان أو بالتنظيم العالمي، ولم تتلق منهم أوامر أو تعليمات. واعتبر أن الصحيح هو أن جماعته لم تكن على علم بوجود تنظيم مبايع للإخوان قبل خروج نحناح ورفاقه من السجن سنة 1980، مذكراً بأن العمل آنذاك كان سرياً إلى حد يصعب معه اكتشاف هذه الصلات.
وأشار جرافة أيضاً إلى أن التنسيق بين الجماعات الدعوية في الجامعات ضد التيار الفرانكفوني والشيوعي بلغ ذروته أواخر السبعينيات، وأسفر عن سيطرة الإسلاميين على معظم الجامعات مع مطلع الثمانينيات. واستعرض محطات التعاون ومساعي الوحدة، مذكراً بلقاءات رسمية بين ممثلين عن جماعته والإخوان في الجزائر، حضرها بوسليماني وبوجمعة عياد من جهة، وحسين مشومة وجرافة من جهة أخرى، وتوجت بمحاولة دمج برعاية نائب المرشد العام مصطفى مشهور سنة 1987، لكنها لم تصل إلى إعلان الوحدة بسبب إكراهات الواقع. كما استحضر جرافة المحن التي تعرضت لها جماعته، خاصة في 1982 و1985، والتي أضعفت انتشارها مقابل توسع الإخوان في مختلف أنحاء البلاد، معتبراً أن ذلك كان في النهاية لصالح الصحوة الإسلامية.
وفي سياق هذا الجدل، أيّد النائب الإسلامي السابق محمد صالحي ما صرّح به الشيخ عبد الله جاب الله، مؤكداً أن ما ذكره “صحيح”، سواء قيل في وقته أو غير وقته. وأوضح صالحي أن تنظيم جماعة الشرق في نهاية السبعينيات كان يعتمد المنهاج الإخواني المصري والسوري بنسبة مئة بالمئة في الثقافة التنظيمية، ونحو ثمانين بالمئة في الثقافة الفكرية، مستلهماً مؤلفات رموز مثل حسن البنا، سيد قطب، محمد قطب، علي جريشة، يوسف القرضاوي، محمد الغزالي، الرافعي، نجيب الكيلاني، إضافة إلى سعيد حوى، عصام العطار، مصطفى السباعي، عبد الكريم الصواف، محمد أحمد الراشد، وعبد الله عزام.
وأشار صالحي إلى أن هذه المرجعية الثقافية والتنظيمية جعلت جماعة الشرق تعتبر نفسها جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين، مع تعديلات طفيفة في التنظيم لتتلاءم مع خصوصية الجزائر. وأكد الرجل أن ما ذكره جاب الله حول سعي التنظيم الدولي للإخوان في الجزائر لاستقطاب عناصر من جماعة الشرق بحجة أن جاب الله لم يبايع التنظيم “صحيح”، مشيراً إلى أن هذه التحركات تسببت في قلاقل داخل الصف، وهو ما أكده أيضاً الدكتور عبد الرزاق مقري في تصريحات إعلامية سابقة.
ولفت إلى أن جذور العلاقة بين جاب الله وفكر الإخوان تعود، في رأيه، إلى احتكاكه بأساتذة سوريين ومصريين هاربين من بطش أنظمتهم، من بينهم عبد الحليم ديب، أستاذ الرياضيات بثانوية ابن باديس في قسنطينة، المعروف بأخلاقه ونشاطه الدعوي، والذي كانت تربطه علاقة وثيقة بمساعد جاب الله آنذاك عبد المجيد عبد اللاوي.
نسرين جعفر: الهدف هو الفهم وليس إثارة الجدل
وعن أسباب الخوض في هذه النقاشات، أكدت الصحافية ومقدمة بودكاست “للتاريخ”، نسرين جعفر، في تصريح لـ”القدس العربي” أن استعراض تاريخ الحركة الإسلامية في الجزائر يندرج ضمن الفكرة العامة للبرنامج، الذي يهدف إلى توثيق شهادات شخصيات سياسية من مختلف التيارات حول محطات حاسمة في تاريخ البلاد، سواء كانت شاهدة عليها أو فاعلة فيها.
وأوضحت أن الهدف من تخصيص حلقات للإسلاميين هو فهم المسارات الشخصية لقيادات هذا التيار والتعرف على منظورهم للأحداث، بما يكشف التجربة السياسية للحركة الإسلامية وما رافقها من تحالفات وانقسامات ومواقف ساهمت أو تسببت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في ما عاشته الجزائر خلال العشرية السوداء.
وأضافت جعفر أن هذه الحلقات تسعى لتعريف الجيل الجديد بالأحداث التي لم يعايشها، من منظور الفاعلين فيها، مع عرض مختلف الروايات بتناقضاتها، حتى يتمكن المشاهد من تقييم الشخصيات وتحديد مسؤوليات مختلف الأطراف. واعتبرت أن التفاعل الكبير مع هذه الحلقات يعكس تعطش الجمهور لمعرفة تاريخه السياسي، خاصة ما يتعلق بالأحداث التي شكلت منعطفاً حاسماً، وفي مقدمتها العشرية السوداء التي ما تزال تثير الكثير من الغموض والتساؤلات، لافتة إلى أن المصالحة الوطنية عالجت الجانب الأمني وأعادت السلم، لكنها لم تحدد المسؤوليات أو تعالج الأسباب.
تعليقات الزوار
لا تعليقات