أظهر الحكم القضائي الأخير الصادر بحق الصحفي الجزائري سعد بوعقبة ومسيّر منصة "رؤية" عبدالحليم حراوي طبيعة العلاقة المعقدة بين السلطة والإعلام المستقل في الجزائر. فالحكم، القاضي بثلاث سنوات سجناً مع وقف التنفيذ بحق بوعقبة وغرامة مالية قدرها مليون دينار، إضافة إلى الحكم المماثل بحق حراوي مع إغلاق منصة "رؤية" ومصادرة تجهيزاتها، جاء في سياق قانوني، لكنه أثار في الوقت ذاته جدلاً واسعًا لدى منظمات حقوقية دولية ومحلية ونشطاء يرون أن هذه الإجراءات تحمل أيضًا رسائل سياسية غير مباشرة.
وترى جهات حقوقية أن اللجوء إلى عقوبات مع وقف التنفيذ يمنح الحكم طابعا قانونيا شكليًا، لكنه يُستخدم –وفق تقديراتها– كآلية لاحتواء الانتقادات دون الدخول في مواجهة علنية مع الرأي العام. وتعتبر هذه الجهات أنّ الصيغة القانونية قد تخفف من حدة التداعيات الدبلوماسية، لكنها تنقل في المقابل رسالة إلى وسائل الإعلام المستقلة والمنصات الرقمية بأن تجاوز ما يوصف بـ"الخطوط الحمراء" قد يعرضها لملاحقات قضائية أو لإجراءات تنظيمية مشددة.
وتعود القضية إلى تصريحات أدلى بها بوعقبة لمنصة "رؤية" تناول فيها ملف أموال حزب جبهة التحرير الوطني، وهو ما اعتبرته شخصية من عائلة الرئيس الأسبق أحمد بن بلة مسيئًا لرموز الثورة. واستند الملف القضائي إلى مواد تتعلق بـ"إهانة وقذف رموز الدولة ورموز ثورة التحرير الوطني" و"نشر أخبار كاذبة أو مضللة". وبرأي ناشطين حقوقيين، فإن هذه المواد القانونية، رغم طابعها التنظيمي، تُستخدم أحيانًا لتحديد حدود النقاش المتعلق بالحزب الحاكم وتاريخه.
ويتجاوز الحكم الجانب الفردي ليطال المنصة الرقمية نفسها، حيث أدى إلى إغلاق "رؤية" ومصادرة معداتها. وترى منظمات حقوقية أن هذا الإجراء يعكس اتجاها لتقييد المساحات الرقمية المستقلة ومنعها من التحول إلى منصات حقيقية للتحقيق الصحفي أو نقاش الملفات الحساسة. وتعتبر أن ذلك يحمل طابعًا ردعيًا يستهدف ضبط الخطاب العام في البلاد.
وتذكر تقارير صادرة عن منظمات دولية أن الجزائر تواجه تحديات في ما يتعلق بحرية الإعلام، وتشير إلى حالات سابقة لاعتقالات أو ملاحقات طالت صحفيين ونشطاء رقميين بسبب منشورات أو تغطيات إعلامية. غير أنّ السلطات الجزائرية ترفض هذه الانتقادات، معتبرة أنها لا تعكس الواقع، وأن معظمها مبني على تقديرات سياسية وليست مهنية.
وفي المقابل، تؤكد السلطة التنفيذية في الجزائر أن الإجراءات المتخذة، سواء الإدارية أو القضائية، تندرج في إطار تنظيم المشهد الإعلامي والرقمي، وضبط الانفلات الحاصل على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما في ما يتعلق بنشر معلومات غير دقيقة أو مسيئة لأشخاص أو لرموز وطنية. وتوضح السلطات أنّ هذه الخطوات تأتي استجابة لخطاب رسمي يسعى إلى حماية المجال العام من التلاعب الإعلامي، وأن القرارات القضائية في هذا السياق مستقلة ولا تتدخل فيها السلطة التنفيذية، بل تصدر بناء على معطيات قانونية ووفق مسار قضائي كامل.
وترى الحكومة كذلك أن المنصات الرقمية أصبحت ذات تأثير كبير، وأن سوء استخدامها قد يؤدي إلى نشر معلومات تشكل ضررًا على الأفراد أو على السلم الاجتماعي، وهو ما يبرر –وفق رأيها– وضع ضوابط لضمان الاستخدام المسؤول، دون المساس بحرية التعبير المكفولة دستوريا.
في المقابل، يعتبر ناشطون حقوقيون أن الحكم بحق بوعقبة وإغلاق منصة "رؤية" يمثلان امتدادًا لنمط متكرر في التعامل مع وسائل الإعلام المستقلة. ويشيرون إلى أنّ القانون يُستخدم في بعض الأحيان كأداة لإعادة تشكيل حدود النقاش العام، في حين ترى السلطات أنّ تطبيق القانون لا يستثني أحدًا، وأن احترام الرموز الوطنية والمرجعيات التاريخية يشكل مبدأً أساسياً في الخطاب السياسي للدولة.
ويظهر الحكم أيضًا –بحسب مراقبين– التوتر الدائم بين مقتضيات التنظيم القانوني من جهة، ورغبة الإعلام المستقل في فتح ملفات سياسية وتاريخية حساسة من جهة أخرى. وبين هذين الاتجاهين، يجد الصحفيون والمنصات الرقمية أنفسهم أمام معادلة معقدة: ممارسة النقد المهني ضمن هامش مقبول، أو مواجهة ملاحقات قد تصل إلى إغلاق المنصات ومصادرة تجهيزاتها.
وفي النهاية، يعكس الحكم الأخير حالة التجاذب المستمرة بين السلطة وقطاع الإعلام، ويعيد طرح السؤال حول مستقبل حرية الصحافة في الجزائر، خصوصًا في ظل تحولات المشهد الرقمي وتنامي دور المنصات المستقلة. وبين إجراءات تعتبرها المنظمات الحقوقية تقييدية، وتصفها السلطات بأنها تنظيمية وضرورية لمنع الفوضى المعلوماتية، يبقى المجال الإعلامي الجزائري أمام تحديات كبيرة تتعلق بتحديد مساحات التعبير وحدود الرقابة وآليات الحفاظ على التوازن بين حماية الأفراد وصون حرية الرأي.

تعليقات الزوار
لا تعليقات