توفيت باية بوزار المعروفة ببيونة الأسبوع الماضي عن عمر ناهز 73 سنة، بعد مشوار فني حافل، اشتهرت فيه كممثلة في التلفزيون والسينما والمسرح. زيادة على الغناء الشعبي، الذي متعت فيه جمهورها بصوتها المتميز، عبر مسيرة فنية مكتملة لم تكن غريبة عنها هي ابنة الوسط العائلي الفني، انطلقت فيه من حي بلوزداد الشعبي- بلكور. بيونة التي عرفت وهي صغيرة من خلال مسلسل «الحريق» لمصطفى بديع، الذي أخرجه عام 1974 للتلفزيون الجزائري عن رواية لمحمد ديب، وهي لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر.
مسلسل «الحريق» نال شهرة كبيرة بشخصياته التي لم تنسها أجيال من الجزائر، كشخصية فاطمة التي مثلتها بيونة بما ميزها من قوة حضور وطابع مشاكس، لم تنمحِ من ذاكرة الجزائريين بعد عقود من عرض المسلسل لأول مرة، لتعرف لاحقا بأدوارها الكوميدية التي أضحكت العائلة الجزائرية من مختلف الأجيال ومناطق البلاد. بشخصياتها التي مثلتها، لم تكن بعيدة عن حياة بيونة، ابنة الوسط الشعبي، بلهجتها العاصمية التي اخترقت الفضاءات الثقافية المتنوعة، التي نعرفها في الجزائر، قُبلت فيه بيونة كما قبلت لهجتها العاصمية وشخصيتها غير النمطية، لنكون أمام ظاهرة عاشتها الحياة الفنية في الجزائر.
الفنانون والممثلون ـ وليس السياسيين ورجال الفكر على سبيل المثال- هم الذين وحدوا الجزائريين ثقافيا على الأقل، في ما يتعلق بلهجاتهم المختلفة التي أحبوها واستعملوها كجزء من صفقة حب كلية، انطلقت من الفنان لتضم لهجته ولغة حديثه وأسلوبه في الحديث، كما حصل مع بيونة وزميلها عثمان عريوات ابن حي بلكور الشعبي هو الآخر.. بيونة ابنة الحي الشعبي العاصمي التي لم تفصل بين فنها وحياتها الشخصية التي عاشتها بالطول والعرض، في حالة صدق نادرة، عرف المواطن الجزائري كيف يقدرها ويحترمها فيها، رغم خروجها عن المألوف اجتماعيا في الكثير من الأحيان، على غرار ما حصل مع فنانين كبار على شاكلة فضيلة الدزيرية، وعمار الزاهي الذي خرج أبناء الشعب البسيط في جنازته بأعداد لم تعرفها جنازة أخرى في الجزائر في السنوات الأخيرة. بيونة التي كان لزاما عليها مغادرة الجزائر والتوجه نحو باريس – كما يفعل الكثير من الفنانين الجزائريين – لكي تقوم بعملها كفنانة لم يكن من السهل أن تقوم به في الجزائر العاصمة وهي تدخل مرحلة الاضطراب الأمني، رغم الفرص التي منحها لها بعض المخرجين كما كان الحال مع المخرج الشاب جعفر قاسم، الذي تميزت أعماله الفنية بقبول كبير لدى الجمهور الجزائري. عرف فيه كيف يستغل إمكانيات هذه الفنانة الموهوبة في أعماله، التي نالت نجاحا كبيرا، عادة ما كانت مربوطة بشهر رمضان، الذي يعرف فيه الإنتاج التلفزيوني حركة تكون مؤقتة لا تنجح في تجاوز هذا الشهر بأيامه المعدودة، ما يطرح بحدة مسألة الوضع الاقتصادي للفنان الجزائري، الذي يبقى معلقا بما يستطيع إنجازه في هذا الشهر ليعيش بطالة مقنعة باقي أيام السنة الطويلة. في غياب صناعة سينمائية فعلية كثر الكلام عنها في السنوات الأخيرة، من دون الوصول إلى تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، عكس ما قامت به تجارب مغاربية ناجحة في تونس والمغرب، حتى لا نقارن أنفسنا مع الحالة المصرية أو السورية البعيدة جدا عنا، يكون قد اكتشف صاحب القرار أن السينما ليست استثمارات مالية فقط، بقدر ما هي حياة ثقافية وفنية وانفتاح على العالم، بما يتطلبه من حريات لا تملك الجزائر في الوقت الحالي شروطها الأساسية، ما يعني بالنسبة لهذه الفئة المهنية الهشة، البحث عن وجهات أخرى كسوق عمل، عادة ما تكون فرنسا ومدنها بالنسبة للفنان الجزائري، للوجود الكبير للجزائريين في ذلك البلد، تحولوا إلى جمهور دائم بالنسبة لهذه الوجوه الفنية التي تقوم بربطهم ببلدهم وهم في بلاد المهجر، يمكن أن تدوم لسنوات بل ولعقود. وهو ما قامت به بيونة في السنوات الأخيرة، تمكنت فيه من المشاركة في العديد من الأعمال الفنية، لم تخرج فيها عن الأدوار التي جسدتها فنيا في الجزائر، قبل هجرتها الفنية، لم تكن بعيدة عما عرفت به كشخصية في حياتها اليومية.
في الوقت نفسه، الذي تكون فيه هذه الفنانة الشعبية قد حسنت من وضعها المالي ولغتها الفرنسية، التي لم تكن تتحكم فيها جيدا عندما غادرت الجزائر، وهي ابنة الوسط الشعبي الفقير، الذي لم يكن محظوظا في علاقته بالمدرسة والتحصيل العلمي علاقة ستورثها لأبنائها لاحقا. بيونة التي عرفت رغم ذلك بحسها الفني استفادت فيه من جو التسامح الذي وجدته وهي تشارك في هذه المشاريع الفنية الفرنسية، لم يكن متاحا لها دائما في أعمالها الفنية داخل الجزائر، نتيجة الضغط الاجتماعي والثقافي الذي ميز البلد في السنوات الأخيرة، زاد فيه حضور التيارات الدينية المحافظة، المعادية للفن والفنانين الذين كان ينتظرهم مصير مشابه لزملائهم الإيرانيين، لو نجح هذا المشروع السياسي المعادي للحياة والبهجة، كما عبّر عن نفسه، من خلال بعض الكتابات على الوسائط الاجتماعية وهي تنتقد تنظيم جنازة بيونة، وما ميزها من حضور نسوي عبر زميلاتها الفنانات.
حضور لهذه التيارات السياسية ـ الدينية في المدن الكبرى كالعاصمة التي ولدت فيه بيونة، وعاشت فيها كفنانة معروفة لم تكن تتهرب في شوارعها وأزقتها من محبيها ومعجبيها الكثيرين، الذين تلتقي بهم وتكلمهم بعفوية نادرة لم تكن غريبة عن ابنة حي بلكور الشعبي. الحي الذي سكنته لغاية السنوات الأخيرة قبل الانتقال إلى حي شعبي آخر مشابه هو حي ميرامار، في شقة جد متواضعة، تؤكد حالة الهشاشة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي عاشتها هذه الفنانة الشهيرة على غرار الكثير من الفنانات في مجتمعاتنا العربية المنافقة، التي تريد أن تجد من يضحكها ويرقص لها ويطربها وهو يبكي.. كما كان حال الكثير من الفنانات. في بلداننا التي لم تتسامح مع بيونة وزميلاتها كقاعدة عامة. موقف مجتمعي كانت له تداعيات سلبية على استقرار بيونة الاجتماعي والنفسي، وصل تأثيره إلى محيطها العائلي الذي تأذت منه كثيرا، كما ظهر في حديثها عن أبنائها، بحرقة في الكثير من الفيديوهات وهي مريضة ووحيدة في أيامها الأخيرة.. أبناء عاشوا الكثير من الصعوبات في مسارهم الشخصي – بيونة كانت أماً لثلاثة أولاد وبنت واحدة ـ كما ظهر ذلك وهم يلقون نظرتهم الأخيرة على أمهم في مقبرة العالية في العاصمة.
رحم الله بيونة الفنانة والإنسانة.
ناصر جابي

تعليقات الزوار
لا تعليقات