أخبار عاجلة

النظام الجزائري بعد بوعلام صنصال يزج بسعد بوعقبة عميد الصحافيين في السجن

أودِع عميد الصحافيين الجزائريين سعد بوعقبة، البالغ من العمر أكثر من 79 عاما، رهن الحبس المؤقت أول أمس الخميس بعد يوم واحد فقط من استدعائه على خلفية شكوى بتهمة التشهير وضعتها ابنة بن بلة بالتبني ولم يتوقف الاتهام عند هذا الحد، إذ فاجأ وكيل الجمهورية الجميع بتوسيعه ليشمل "المساس بالرموز التاريخية للدولة" عقب تصريحات أدلى بها الصحافي في برنامج تلفزيوني أعاد فيه فتح واحد من أكثر الملفات حساسية في تاريخ الثورة الجزائرية وهي أموال جبهة التحرير الوطني المودَعة في بنوك سويسرية.

وبدا أول أمس الخميس 27 نونبر في الجزائر، يوما عاديا قبل أن يتحول في غضون ساعات قليلة إلى لحظة مفصلية جديدة في علاقة السلطة بالصحافة المستقلة حيث تلقّى سعد بوعقبة الملقب بـ "عميد الصحافيين" باعتباره أحد أقدم الصحافيين الجزائريين وأكثرهم حضورا في الذاكرة المهنية استدعاء من الدرك على خلفية شكوى رفعتها ضده مهدية بن بلة إحدى ابنتي الرئيس الأسبق أحمد بن بلة بالتبنّي، بتهمة التشهير بذكرى والدها.

ولم يكن الأمر في ظاهره الأول، سوى نزاع قضائي جديد يطال سعد بوعقبة الشخصية الإعلامية المعروفة البالغة من العمر أكثر من 79 عاما، قبل أن يأخذ منحى مختلفا تماما بعد ساعات فقط من الاستدعاء الأول، فحين عاد الصحافي في اليوم الموالي كما طُلب منه بدا أن القضية تسير بسرعة غير معتادة، وبمجرد تقديمه أمام وكيل الجمهورية لدى محكمة بئر مراد رايس، تبيّن أن موضوع الشكوى لم يعد يقتصر على "التشهير"، بل اتسع ليشمل تهمة "المساس بالرموز التاريخية للدولة الجزائرية"، وهي تهمة ثقيلة في السياق الجزائري، وغالبا ما ترتبط بالذاكرة الوطنية ورموز الثورة.

الوقائع التي تُنسب إلى بوعقبة تعود إلى حلقة من  "دون بروتوكول" بثته قناة "فيزيون تي في" على يوتيوب تناول فيها الصحافي، عبر شهادات تاريخية، موضوعا ظل جزءا من هوامش الرواية الرسمية للدولة وهي أموال جبهة التحرير الوطني التي كانت مودعة في بنوك سويسرية خلال سنوات الثورة وكيف جرى، بعد الاستقلال، التصرف في تلك الأموال وتقاسمها بين عدد من القادة المؤثرين في مرحلة ما بعد 1962.

خلال استجوابه من طرف الدرك، أكد بوعقبة أن ما قاله ليس جديدا، وأنه اعتمد في جزء كبير منه، على ما ورد "بالخط العريض" على حد وصفه في كتاب لفرانسوا دومون نشر قبل نصف قرن تقريبا، في زمن كان فيه معظم من ذكرهم الكتاب أحياء، ولم يتقدم أي منهم بشكوى ضد المؤلف.

وهذا الاستحضار لكتاب تاريخي ولوقائع سبق تداولها في الأدبيات الجزائرية حول "كنز الجبهة" لم يكن كافيا لحماية الصحافي من الملاحقة، بل بدا وكأنه زاد القضية تعقيدا، فبعد أسابيع من بث حلقة "التقاسم غير القانوني للأموال" عادت أسرة محمد خيضر، أحد أبرز قادة الحركة الوطنية إلى الواجهة في سياق آخر، بعد أن ذكّر بوعقبة بأن العائلة استرجعت جزءا من الأموال التي كانت مودعة باسمه في سويسرا بعد اغتياله في مدريد عام 1967، وأعادت جزءا منها إلى الدولة الجزائرية.

وهذه الإشارات التاريخية أُدرجت كلها ضمن صك الاتهام الذي اعتمدته النيابة العامة، والذي صيغ بلغة تجمع بين الطابع القضائي والتوصيف السياسي، متّهما بوعقبة بنشر "معلومات كاذبة وغير دقيقة وتشهيرية، وإهانة رموز الدولة والثورة".

ولم تقتصر دائرة الملاحقة على الصحافي المخضرم، بل امتدت إلى مالك قناة "فيزيون تي في" والصحافي الذي أجرى المقابلة معه، حيث مثُلا بدورهما أمام النيابة وتقرر متابعتهما في حالة سراح بتهم تتعلق بـ"إهانة رموز الثورة"، "التشهير" و"النشر العمدي لأخبار كاذبة عبر وسائل الاتصال" وفق المواد 148 مكرر 1 و333 مكرر 6 و196 مكرر من قانون العقوبات، كما صدر قرار بإيقاف القناة بدعوى عدم توفرها على ترخيص قانوني للنشاط، في خطوة فسّرت باعتبارها امتدادا لتداعيات الحلقة التي استضافت بوعقبة.

تسلسل الأحداث أظهر أن شكوى ابنة بن بلة لم تكن وحدها المحدّدة لمسار القضية، بل إن الأجهزة الرسمية تعاملت معها باعتبارها مدخلا لمتابعة أوسع. فوزارة المجاهدين، التي تمثل واحدة من أقوى المؤسسات الرمزية في الدولة نصّبت نفسها طرفا مدنيا في الملف، وهو ما منح القضية صبغة سياسية إضافية، وفي الخلفية بدا واضحا أن حضور بوعقبة الإعلامي، عبر سلسلة شهادات بدأ يدلي بها منذ أسابيع عبر القناة نفسها حول وقائع سياسية عاشها منذ السبعينات، هو ما أعاد في نظر السلطة فتح ملفات حساسة ترتبط بتاريخ الجبهة والدولة معا.

وليست هذه أول مرة يجد فيها بوعقبة نفسه في مواجهة مع أجهزة السلطة الجزائرية، ففي فبراير 2023، سبق للرئيس عبد المجيد تبون أن أمر بسجنه بسبب مقال ساخر حول الاستثمار القطري في قطاع الحليب بالجزائر وهو المقال الذي اعتبرته السلطة آنذاك "مسيئا لمصالح الدولة" ومنذ ذلك التاريخ، وُضع الصحافي تحت منع من السفر بعد سحب جواز سفره، في إجراء استمر دون مراجعة إلى حين توقيفه الأخير.

وفي سياق يشهد تضييقا متزايدا على أصوات إعلامية مستقلة، تبدو قضية بوعقبة متقاطعة مع حالات أخرى مثل حالة الصحافي عبد الوكيل بلام، الذي يوجد في السجن منذ سنة دون صدور حكم نهائي، في تذكير بأن أجهزة الدولة باتت تتحرك في اتجاه يشدّد على ضبط المجال العمومي ومنع أي سرديات تاريخية أو سياسية منافسة للرواية التي تروّج لها المؤسسات الرسمية، وفي خلفية المشهد، تتقاطع هذه القضايا مع سياقات أوسع تتعلق بعلاقة السلطة الجزائرية بتاريخها وبالأسئلة غير المحسومة حول إرث الثورة، وبالخطاب الذي تعتبره الدولة جزءا من شرعيتها السياسية.

وتبدو محاكمة سعد بوعقبة لحظة تكثّف داخلها علاقة محكومة بالتوتر بين النظام السياسي والذاكرة التاريخية، بين الرواية الرسمية ومحاولات فتح الملفات المؤجلة، وبين صحافة تريد أن تقول ما تعتبره "حقيقة تاريخية" وسلطة ترى في ذلك تجاوزا للخطوط الحمراء التي تحرس بها صورتها وتاريخه  وفي انتظار الخامس من دجنبر، موعد الجلسة المقبلة، يبقى بوعقبة رهن الحبس المؤقت في قضية تبدو، في جوهرها جزءا من معركة أكبر حول من يملك حق سرد تاريخ الجزائر ومن يملك حق الاعتراض عليه.

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات