أثار الفصل الجديد من الأزمة الجزائرية الفرنسية ردود فعل واسعة ومتنوعة، عقب الرسالة التصعيدية التي وجّهها الرئيس الفرنسي معلنًا اتخاذ إجراءات حازمة ضد الجزائر، وهي الخطوة التي ردت عليها الجزائر بسرعة وبالمثل، من خلال نقض اتفاق الإعفاء من التأشيرة لحاملي الجوازات الدبلوماسية.
وفي خضم هذا السجال، عبّر النائب عن الجالية الجزائرية في فرنسا عبد الوهاب يعقوبي عن قلقه الشديد من التصعيد، محذرًا من استغلال الجزائريين المقيمين بصفة قانونية في فرنسا كورقة مساومة في الخلافات السياسية.
وندد النائب في تدوينة له بما وصفه بـ”العقوبات الجماعية” التي تستهدف فئات حساسة مثل الطلبة والعائلات من خلال التضييق على التأشيرات طويلة المدة، معتبرًا أن هذه الإجراءات تمثل انتهاكًا صريحًا للاتفاقيات الثنائية والدولية.
وأكد يعقوبي ضرورة الدفاع عن مبدأ الاحترام المتبادل في العلاقات الثنائية، وتفعيل الدبلوماسية البرلمانية، وإشراك ممثلي الجالية في أي قرارات تخص الاتفاقيات القنصلية والسياسة الهجرية. وربط هذا التصعيد بالمناخ الانتخابي الداخلي في فرنسا، مشيرًا إلى أن اقتراب الانتخابات البلدية والرئاسية يدفع بعض الأطراف السياسية إلى توظيف ملف الهجرة والعلاقات مع الجزائر لكسب أصوات الناخبين، داعيًا في المقابل إلى التهدئة والحوار المسؤول الذي يحفظ الروابط التاريخية والإنسانية بين البلدين.
وفي الاتجاه ذاته، عبّرت الحركة الديناميكية للجالية الجزائرية المقيمة بفرنسا (موداف) عن استنكارها الحاد لمضمون رسالة ماكرون، واعتبرتها “انزلاقًا مشينًا وأحادي الجانب” يعزز الصور النمطية والمفاهيم المغلوطة ويمنح الشرعية لخطابات مسيئة تستهدف ملايين الفرنسيين من أصول جزائرية.
وأكدت الحركة أن النهج العقابي، القائم على إلغاء الاتفاقيات الثنائية واستغلال ملف الهجرة كورقة ضغط، يضر بمصلحة الشعبين، مذكّرة بأن تصريحات وزير الداخلية الفرنسي ضد الجزائر خلال الأشهر الماضية كانت تمهيدًا لهذه السياسة، وأن الرسالة الرئاسية تثبت أن هذه المواقف ليست معزولة، بل مدعومة على أعلى مستوى. وشدد بيان الحركة على أن الجالية الجزائرية في فرنسا جزء فاعل في المجتمع الفرنسي، منخرطة في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والاقتصاد والثقافة، وهي “ثروة مشتركة” لا تهديد ولا عبء، داعية إلى شراكة قائمة على الاحترام المتبادل بعيدًا عن الابتزاز.
وعلى الساحة الفرنسية، أثارت تصريحات المرشحة الرئاسية السابقة سيغولين روايال اهتمامًا خاصًا في الجزائر، نظرًا لجرأتها في انتقاد النهج الذي تتبعه باريس. فقد رأت روايال أن “ورقة الجزائر” تُستَخدم كلما أرادت السلطات صرف انتباه الرأي العام عن أزمات داخلية خانقة، مثل حرائق الغابات المدمرة في منطقة أود، وما اعتبرته تقصيرًا فادحًا في تنفيذ الوعود المتعلقة بتجهيزات الطائرات وتراجع ميزانية الحماية المدنية، فضلًا عن الاستعداد لدخول موسم اجتماعي متوتر دون أي إجراءات وقائية لاحتواء الاحتقان. وأشارت إلى أن اللجوء إلى افتعال مواجهات خارجية ليس حلًا، متسائلة بسخرية: “عندما تندلع الاحتجاجات في 10 سبتمبر، مع من سيعلنون الحرب؟”.
وفي تقييمها لجذور الأزمة مع الجزائر، تساءلت روايال عن جدوى تكليف وزير داخلية (برونو روتايو) “له حنين إلى الاستعمار” بإدارة العلاقات مع “دولة كبرى” كالجزائر، وهو الوزير نفسه الذي دافع وصوّت لصالح قانون وُصف بـ”المشين” لتمجيد بعض أوجه الحقبة الاستعمارية. واعتبرت أن مثل هذا الخيار السياسي يتعارض مع مصالح فرنسا الاستراتيجية، لأن “من طبيعة الأمور ألا ينتج عنه أي حل، وإنما مواقف مدمرة فقط”، مؤكدة أن إعادة بناء الثقة مع الجزائر تتطلب مسؤولية وكفاءة واحترامًا متبادلاً، بدل الخطاب المتشنج والمقاربات العقابية.
على صعيد التحليل السياسي، يرى أستاذ العلاقات السياسية رابح لونيسي في منشور له أن الخلافات حول التأشيرات وجوازات السفر ليست سوى مظاهر سطحية لصراع أعمق يتعلق برفض الجزائر البقاء تحت الهيمنة الاقتصادية الفرنسية. وأوضح أن باريس ترغب في الاحتفاظ باحتكار السوق الجزائرية وثرواتها، والحفاظ على دورها التاريخي كوسيط بين الجزائر والدول الكبرى، وهو ما تغيّر جذريًا بعد 2019، ما أثار غضبها، مذكّرًا بأزمات مشابهة خلال سبعينيات القرن الماضي بسبب استقلالية القرار الاقتصادي الجزائري.
أما الصحافي نجيب بلحيمر، فدعا إلى توجيه النقاش داخل الجزائر نحو تقييم أداء صانعي القرار بدل الاكتفاء بهجاء فرنسا أو ترديد بيانات الخارجية. واعتبر أن غياب الرؤية والاستشراف في السياسات الخارجية – كما في حالة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي تحوّل إلى “أغلال” تكبّل الاقتصاد – هو مكمن الخلل، وأن العالم يتغير بسرعة بينما يزداد الغموض حول موقع الجزائر في هذا المشهد.
وكان السجال بين الجزائر وفرنسا قد بلغ ذروته بعد الكشف عن مضمون رسالة وجّهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وزيره الأول، تضمّنت قرارات تصعيدية في ملفات الهجرة والتأشيرات، وهو ما اعتبرته الجزائر “إجراءً أحادياً وغير مبرّر”.
وردّت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية ببيانين متتاليين؛ الأول انتقد بشدة مضمون الرسالة الفرنسية ورفض ما وصفته بـ”الابتزاز السياسي”، والثاني أعلن عن إلغاء العمل باتفاق الإعفاء من التأشيرات لحاملي الجوازات الدبلوماسية وجوازات المهمات الفرنسيين.
كما أبلغت الجزائر في بيانها الثاني بعد استدعاء القائم بالأعمال الفرنسي، بقرار إنهاء استفادة سفارة فرنسا بالجزائر من إجراء “الوضع تحت التصرف”، والذي كان يسمح لها باستغلال عدد من الأملاك العقارية التابعة للدولة الجزائرية بصفة مجانية. كما شمل الإشعار إعادة النظر في عقود الإيجار المبرمة بين السفارة الفرنسية ودواوين الترقية والتسيير العقاري، والتي كانت تمنح امتيازات تفضيلية.
ودعت الجزائر الجانب الفرنسي إلى إرسال وفد إلى الجزائر للشروع في محادثات حول هذه المسائل. وذكّرت بأن البعثة الدبلوماسية الجزائرية في فرنسا لا تستفيد من امتيازات مماثلة، ما يجعل هذه الخطوة جزءًا من مسعى جزائري لفرض التوازن وترسيخ مبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات الثنائية بين البلدين.
وكانت العلاقات بين الجزائر وفرنسا، قد بدأت في التأزم عقب إعلان باريس، مطلع سنة 2024، دعمها الصريح لخطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية، ما أثار رفضاً جزائرياً قاطعاً واعتُبر خروجاً عن موقف الحياد في هذا الملف الحساس. وتفاقمت الأزمة لاحقاً بسبب القيود التي فرضتها باريس على اعتماد دبلوماسيين وقناصل جزائريين، إلى جانب تفعيل أدوات الضغط المرتبطة بالتأشيرات والترحيل. ويرى متابعون أن هذا الفصل الجديد يشكل ذروة الأزمة التي لا توجد بوادر حتى الآن تشير إلى كيفية احتوائها.
تعليقات الزوار
لا تعليقات