أثار قرار وزارة الداخلية الجزائرية برفض طلب للأحزاب تنظيم مسيرة في العاصمة تضامناً مع غزة، جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والحقوقية والشعبية، وسط تساؤلات متجددة حول مدى انسجام الممارسة الإدارية مع الدستور الجديد للبلاد، الذي كرس صراحة حق التظاهر السلمي بمجرد التصريح.
وتتقاطع في هذا النقاش آراء متعددة، بعضها يستنكر المنع باعتباره مساساً بالحريات الأساسية، فيما يراه آخرون قراراً متفهماً في ظل ما يصفونها بالظروف السياسية والإقليمية الدقيقة. كما يعتقد البعض أن لا جدوى من التظاهر ما دام موقف الحكومة الجزائرية متقدما في إدانة العدوان الصهيوني ورافضا بشكل قاطع لكل أشكال التطبيع.
وكان ما أثار النقاش، مراسلة وزارة الداخلية الموقعة من قبل أمينها العام حمود جامع رداً على طلب تقدم به 12 حزباً سياسياً لتنظيم مسيرة في الجزائر العاصمة يومي 7 أو 8 أغسطس 2025 تحت شعار “الجزائر مع فلسطين.. ضد التجويع والتهجير”. وقد دعت المراسلة ممثلي الأحزاب إلى عقد فعالياتهم التضامنية داخل القاعات والأماكن المغلقة، مستندة إلى أحكام القانون رقم 89-28 المؤرخ في 31 ديسمبر 1989 والمتعلق بالاجتماعات العمومية. وتضمّن الطلب أسماء شخصيات من أحزاب بارزة على غرار حزب العمال، حركة مجتمع السلم، حركة النهضة، جبهة العدالة والتنمية، وغيرها.
وكانت هذه المبادرة قد انطلقت في اجتماع سياسي موسّع عقد بمقر حركة مجتمع السلم وضمّ أطرافاً حزبية من مختلف التوجهات، عبّروا فيه عن رغبتهم في التعبير الميداني عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، ولا سيما في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي وتفاقم معاناة المدنيين في غزة. وقد صدر عن الاجتماع بيان موحد يدعو إلى فتح الفضاءات العمومية أمام الجزائريين في مختلف الولايات للمشاركة في وقفات وتجمعات تضامنية، مؤكدين على ضرورة تحويل الأنشطة الثقافية والفنية إلى منابر لمناصرة القضية الفلسطينية، وعلى أن هذا الموقف لا يجب أن يُختزل في البيانات الرسمية أو الدعم الدبلوماسي فحسب.
وبعد هذا المنع، ثارت تساؤلات كان أبرزها ما طرحه النائب عبد الوهاب يعقوبي الذي اعتبر في تدوينة له، أن مراسلة وزارة الداخلية تمثل تجاهلاً صريحاً للمادة 52 من دستور 2020 التي تنص بوضوح على أن “حرية التظاهر السلمي مضمونة، وتمارس بمجرد التصريح بها”.
وأكد النائب عن حركة مجتمع السلم، أن استمرار الإدارة في اشتراط الترخيص المسبق كما كان معمولاً به قبل التعديل الدستوري، يشكل انحرافاً عن روحية الدستور، ويضعف ثقة المواطنين في المؤسسات. ودعا يعقوبي إلى مراجعة القانون 89-28 المتعلق بالاجتماعات، باعتباره أصبح متقادماً وغير متلائم مع الدستور الجديد، مؤكداً أن الإدارة مطالبة بالاكتفاء بتلقي التصريحات دون فرض قيود أو توجيهات تحصر الفعاليات في أماكن مغلقة.
في السياق نفسه، ذكر المدون محمد أمين إسماعيل، أن رد وزارة الداخلية يعكس ما سماه “تجاهلاً للدستور الذي صاغته السلطة بنفسها”، مشيراً إلى أن نص المادة 52 واضح في تأكيد أن التظاهر السلمي لا يحتاج إلى ترخيص. وتساءل: “ما الجدوى من دستور لا يُحترم؟”، في انتقاد مباشر لاستمرار العمل بمقتضيات قانونية سابقة لدستور 2020 دون تحيينها.
وكانت الفترة الأخيرة، قد شهدت عدّة محاولات لتنظيم مسيرات سلمية في العاصمة، حيث سارع أعوان الأمن إلى منعها قبل انطلاقها، ما أسفر عن توقيف عدد من المشاركين مع إطلاق سراحهم دون أي متابعات قضائية. وتكرّرت هذه الوقائع في مناسبات مختلفة، خاصة بعد دعوة حركة حماس الفلسطينية لتكثيف حركة التضامن مع غزة للضغط على الاحتلال الإسرائيلي.
في مقابل ذلك، أبدت أصوات تفهمها لموقف وزارة الداخلية واعتبرته متسقاً مع متطلبات التقدير السياسي والأمني. وكتب الأستاذ محمد بوضياف أن القرار، وإن بدا في ظاهره تضييقاً على حرية التظاهر، إلا أنه يرتكز على قراءة أشمل للظرف الإقليمي والدولي، مشيراً إلى أن الشارع في الظروف الراهنة بات ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، ما قد يضر أكثر مما ينفع. وأوضح أن الجزائر، رغم هذا المنع، تواصل دعمها الرسمي والدبلوماسي القوي للقضية الفلسطينية، وهي ثابتة في مواقفها خلافاً لعدد من الأنظمة التي اختارت التطبيع أو الصمت.
واعتبر بوضياف أن المسيرات في هذا الوقت “المتأخر”، على حد وصفه، لن تغيّر في موازين القوى، ولن تخدم الشعب الفلسطيني بقدر ما قد تمنح خصوم الجزائر فرصة لتأليب الرأي العام الداخلي. ولفت إلى أن الدولة تدير شؤونها بحسابات دقيقة تشمل السياسة والأمن والاقتصاد، وأن التضامن لا يُختزل في الخروج إلى الشارع فحسب، بل يشمل كذلك الدعم الإنساني والدبلوماسي والإعلامي.
بموازاة ذلك، سعى الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري إلى التأصيل لموضوع التظاهر السلمي ضمن التجربة الجزائرية، مذكّراً بأن الجزائريين خرجوا في مظاهرات كبرى على مدار عامين خلال الحراك الشعبي دون تسجيل أي انفلات أمني، رغم أن المسيرات كانت غير مرخصة.
كما استعرض مشاركات شعبية ضخمة في مظاهرات سابقة دعمًا لفلسطين أو رفضًا للتزوير أو التنديد بالغاز الصخري، معتبراً أن كل تلك التحركات ظلت في إطار السلمية والمسؤولية. وأكد مقري أن المخاوف من الانفلات في حال السماح بمسيرة تضامنية مع غزة لا تستند إلى وقائع موضوعية، بل تُوظف كمبرر لتقييد الحريات.
ولم تغب الالتزامات الدولية للجزائر عن هذا الجدل، إذ أعاد البعض التذكير بتقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في حرية التجمع السلمي، كليمان نياليتسوسي فول، الصادر نهاية عام 2023 بعد زيارته إلى الجزائر. وقد دعا فول حينها إلى مراجعة شاملة للترسانة القانونية المنظمة للحق في التظاهر والاجتماع، وأوصى بإلغاء واستبدال عدة قوانين منها القانون 89-28، مع اعتماد تشريعات جديدة تحترم روح دستور 2020 وتتماشى مع الالتزامات الدولية للجزائر في مجال حقوق الإنسان. كما شدد التقرير على ضرورة التحقيق في كافة حالات الاعتقال وسوء المعاملة المرتبطة بالمظاهرات، وإسقاط التهم عن النشطاء الذين مارسوا حقهم في التعبير أو التظاهر السلمي.
تعليقات الزوار
لا تعليقات