كشف المتطوّع الألماني ميشا سكورزينسكي، الذي شارك ضمن وفد من المتضامنين الدوليين في مرافقة المزارعين الفلسطينيين خلال موسم قطف الزيتون في الضفة الغربية، عن مشاهد «صادمة ومؤثرة» عاشها في القرى المعرّضة لاعتداءات المستوطنين. وقال في حديث لـ«القدس العربي» إنه سافر إلى الضفة مع مجموعة من المتطوّعين الأوروبيين «لدعم الفلاحين الفلسطينيين ومساعدتهم على الوصول إلى أراضيهم، وحمايتهم قدر الإمكان من اعتداءات المستوطنين التي تتكرر كل عام».
ميـشا، وهو معلّم من مدينة كولون الألمانية، ينشط في مبادرات التضامن الدولي التي ترافق المزارعين الفلسطينيين في موسم الزيتون. وقد شارك في مهمات تطوّعية متعددة مع ناشطين أوروبيين بهدف حماية العائلات الفلسطينية من الهجمات، وتوثيق الانتهاكات، والعمل إلى جانبهم في الحقول. ويؤكد أن التجربة كشفت له حجم المخاطر التي يواجهها المزارعون يومياً، لكنها عرّفته أيضاً على عمق ارتباط الفلسطينيين بأرضهم وصمودهم في مواجهة العنف.
موسم يعتمد عليه الفلاحون طيلة العام
قال ميشا إن زيارته تزامنت مع شهر تشرين الأول/أكتوبر، وهو ذروة موسم الزيتون، حين تعتمد آلاف العائلات الفلسطينية على ريع هذا المحصول لتأمين دخلها السنوي، «كنت أعرف أهمية الزيتون للفلسطينيين، لكني لم أدرك حجم هذا الارتباط إلا حين رأيت العائلات تخرج بكل أفرادها يومياً إلى الحقول». شارك ميشا مع غيره من المتطوعين في قطف الزيتون في مناطق عدة في الضفة، أبرزها مسافر يطا المهدّدة أراضيها بالمصادرة في محافظة الخليل، كما شارك في قطف الزيتون في رام الله ونابلس.
يروي ميشا أنه التقى خلال زيارته أشخاصاً تركت معاناتهم أثراً بالغاً في نفسه، إذ يقول: «تعرّفت على سمير، فلاح لم يرَ والده منذ ثماني سنوات لأنه كان في السجن بعد أن رمى حجراً على دبابة كانت تقترب من أرضهم. كما تعرّفت على محمد الذي قُتل أثناء قطف الزيتون العام الماضي. ورغم أن شقيقه قُتل في موسم القطف الماضي على يد مستوطنين، يعود محمد وعائلته كل عام لقطف الزيتون لأنه يرى في ذلك دفاعاً عن الأرض».
ويضيف: «التقيت أيضاً سوسن، التي لم تتمكن من رؤية ابنها البالغ 19 عاماً منذ 18 شهراً بعد أن اعتقلته القوات الإسرائيلية دون تهمة. ومع ذلك كانت تأتي كل يوم إلى الحقول لتساعد عائلتها في القطف. كانت تقول لي إن الشجرة تنتظر ولا يمكن تركها».
منعونا من القطف وهددونا بإطلاق النار
يشير المتطوّع الألماني إلى أن العديد من المزارعين حُرموا من الوصول إلى أراضيهم بعد تهديد مباشر من المستوطنين، قائلا «في إحدى القرى، رأيت مستوطنين يقتربون من العائلات ويقولون لهم: إمّا تغادرون فوراً أو سنُطلق النار. كان المشهد مخيفاً».
ويتابع: «الأسوأ من ذلك أن الجنود الإسرائيليين وقفوا إلى جانب المستوطنين ومنعوا المزارعين من الاقتراب من أشجارهم. لم يكن الهدف منع التصعيد، بل منع القطف».
ويقول ميشا إن مجموعات من المستوطنين كانت تصل «سوداء مغطاة بالفحم، مجهّزة ببنادق هجومية وعصي وسكاكين»، قبل أن تنفذ اعتداءاتها على القرى والمزارع المحيطة بنابلس وسلفيت ورام الله. ويؤكد أن الجيش الإسرائيلي كان يصل لاحقاً، لكنه لا يوقف المهاجمين، بل يدفع الفلسطينيين خارج أراضيهم أو يجبرهم على الانسحاب.
وأضاف أن احتدام الهجمات جاء على خلفية الحرب في غزة، إذ استغل المستوطنون الانشغال الدولي وغياب الرقابة لتوسيع نطاق اعتداءاتهم. وفي حالات عديدة، حُرقت محاصيل الزيتون أو نُهبت، وتعرّض المزارعون للضرب أو الطرد بالقوة.
ورغم هذه الأحداث القاسية، يتحدث ميشا عن جانب آخر «أعاد إليه الأمل». يقول: «في نهاية كل يوم، كان الفلاحون يفتحون بيوتهم لنا. كنا نأكل معاً ونغني معاً. رغم كل الحزن والخسارة، كان هناك احتفال صغير يعيد إلينا القوة».
ويضيف أنه قال لصديقه سمير إنه يشعر بالأسى عليه لأنه رأى والده أخيراً بعد ثماني سنوات. فردّ سمير: «هناك من لم يستطع أن يرى أباه أبداً أو شاهده بعد 15 أو حتى 20 عاماً». يقول ميشا: «هذا الجواب لم يفارق ذهني».
لم أرَ شعباً يحب الحياة مثل الفلسطينيين
ويختم المتطوّع الألماني حديثه لـ«القدس العربي» قائلاً: «زرت دولاً كثيرة، خصوصاً في أمريكا اللاتينية، وكانت كلها شعوباً مضيافة، لكن الفلسطينيين شيء مختلف. لم أرَ حتى اليوم شعباً يعيش تحت هذا القدر من الضغط والخطر، ومع ذلك يتمسك بالأمل ويحب الحياة بهذا الشكل العجيب».
ويضيف: «كانت مشاعر الغضب والحزن والفخر تختلط بداخلي في آن واحد. من الصعب أن تختبر كل هذه المشاعر في بلد واحد ولأجل قضية واحدة، كما حدث معي في فلسطين».
وتشير تقارير حقوقية وميدانية إلى أن مجموعات من المستوطنين المسلحين تهاجم المزارعين الفلسطينيين بشكل متكرر، خصوصاً في القرى المحيطة بنابلس ورام الله وسلفيت والخليل، مستخدمة العصي والحجارة والأسلحة النارية لتهديد العائلات وإجبارها على مغادرة الحقول. وفي العديد من الحالات، شوهد الجنود الإسرائيليون وهم يقفون إلى جانب المستوطنين، مانعين الفلسطينيين من قطف ثمارهم أو مغلقين الطرق الزراعية المؤدية إلى الأراضي.
وتقول منظمات فلسطينية إن هذه الاعتداءات، إضافة إلى القيود التي يفرضها الجيش على الحركة والدخول إلى منطقة «ج»، تؤدي إلى خسائر كبيرة في المحصول، وتضع آلاف الأسر في خطر فقدان مصدر رزقها الرئيسي.
موسم يحمل معنى الأرض والهوية
لا يمثل موسم الزيتون مجرد نشاط زراعي، بل هو أحد أهم عناصر الهوية الفلسطينية. فالشجرة التي تمتد جذورها لقرون تجسد ارتباط الفلسطينيين بأرضهم، وتشكل خط دفاع رمزيّاً ومادياً في وجه محاولات الاستيطان والمصادرة. وتعتمد آلاف العائلات في القرى الريفية على الزيت والزيتون كمصدر رزق أول، في ظل تراجع فرص العمل وارتفاع البطالة. ويحرص الفلسطينيون على أن يكون موسم القطف عملاً عائلياً جماعياً، تشارك فيه النساء والرجال والأطفال وحتى كبار السن، في مشهد يجمع بين العمل والتراث والمقاومة اليومية.

تعليقات الزوار
لا تعليقات