أخبار عاجلة

غزيون يفتِّشون عن أحبتهم بين الركام

في ضوءٍ باهتٍ يتسلّل من خلف غيوم رمادية فوق مدينة غزة، وقفت أمّ رنيم بربر عند حافة مقبرةٍ مكتظةٍ بالقبور. الدموع تسيل على وجنتيها ببطء، تكاد تحرق الخدّين. يداها ترتجفان وهي تحمل زهرةً بيضاء باهتة. تنظر إلى الشواهد الحجرية أمامها وتهمس: «هذا قبر زوجي، وهذا قبر ابني، وهنا ابنتي…». ثم ترفع عينيها إلى السماء قائلةً: «سألتُ الله أن يغيّر هذا القدر، فهل يسمعني؟».

بين القبور والدموع

ليست هذه المرأة اسمًا في نشرات الأخبار، لكنها حكاية تشبه آلاف الحكايات في غزة، لنساءٍ يقفن على حافة الحزن منذ عامين، يودّعن أحبّتهن ولا يملكن سوى البكاء والدعاء.
فقدت أمّ رنيم أسرتها كاملة في إحدى غارات الليل، خمس أرواحٍ كانت تملأ بيتها دفئًا وضحكًا، رحلت في لحظةٍ واحدة تحت الأنقاض. ومنذ ذلك اليوم، باتت زيارتها للمقبرة طقسًا يوميًا، تقف عند القبور وتكلّمهم كما لو أنهم ما زالوا يسمعون.
تتذكّر صباحاتهم المليئة بالضحك، وأصواتهم التي كانت تملأ أرجاء البيت. اليوم لم يبقَ سوى صمت الأرض، وريحٌ تمرّ كأنها تمسح على جرحٍ مفتوح. تقول في حزنٍ مكتوم: «كنتُ أظنّ أن الحرب تنتهي حين يسكت السلاح، لكن الحرب تسكن القلب وتظلّ بداخله».
تتأمل القبور المتلاصقة، تشتمّ رائحة التراب، وتترك الزهرة البيضاء على شاهدٍ صغير، كأنها تضع وعدًا جديدًا للحياة في وجه الموت.
بعد عامين كاملين من الدم والدمار، أعلن الطرفان – الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس – عن اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وُقّع في مدينة شرم الشيخ المصرية برعاية مصرية وبدعم من وسطاء دوليين. إعلان انطلقت معه احتفالات شعبية عارمة في كل أرجاء القطاع.
يتضمّن الاتفاق الإفراج عن أسرى من الجانبين، وانسحابًا تدريجيًا للقوات الإسرائيلية، وفتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية لتتدفق نحو القطاع الذي أنهكته الحرب.
المفاوضات في شرم الشيخ لم تكن سهلة، فقد استمرت أيامًا طويلة شهدت نقاشات حادة ومداولات مطوّلة بمشاركة مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة، إلى أن تم التوصّل إلى خريطة طريق تحدد مراحل التنفيذ: وقف إطلاق النار أولًا، ثم تبادل الأسرى، فالانسحاب وإعادة الإعمار.
وينتظر الفلسطينيون اليوم أن يتحوّل هذا الاتفاق إلى واقع ملموس، لا مجرد بيانات وتصريحات، وأن تبدأ حياةٌ جديدة في القطاع المرهق بالحروب.

أمٌّ تبحث عن وجوهها في الركام

في أحد أحياء غزة القديمة، تقف دلال الحايك (41 عامًا) أمام أنقاض بيتها الذي تهدّم في الغارات. بين الركام قطع من أثاثٍ محترق وأوانٍ مكسّرة وصورٌ باهتة لأطفالها. على باب البيت المهدّم علّقت ورقة صغيرة كتبت عليها: «هنا كان بيتنا».
تقول بصوتٍ واهن لـ»القدس العربي»: «كنتُ أعدّ الفطور كل صباح مع أبنائي، واليوم لا أحد يجلس إلى المائدة». تضيف: «الناس يحتفلون بوقف إطلاق النار، لكن في قلبي نارٌ لم تنطفئ، لأنهم لن يعودوا. ماذا أفعل بسلامٍ لا يعيد من رحلوا؟».
تحاول دلال أن تبقى صامدة، لكنها تبكي حين ترى الأطفال الجيران يسألونها عن أبنائها. تقول: «يسألني طفل: متى يعود أخي؟ ولا أجد جوابًا. كيف أشرح له أن الحرب أخذت كل شيء؟».
تمسح دموعها وتقول بهدوءٍ موجع: «سأبقى أزورهم في قبورهم، وأخبرهم أن غزة ما زالت تحبّهم».

الشاب الذي نجا وحده

نجا نادر قديح من غارةٍ أصابت منزله شرقي مدينة خان يونس، لكنه فقد أمه وأخاه الأصغر في تلك الليلة. يجلس اليوم عند قبرٍ صغير في المقبرة، يضع يده على التراب ويقول: «كنتُ أستيقظ على صوت أمي، واليوم أستيقظ على صمتٍ بارد».
يضيف لـ»القدس العربي»: «حين سمعت خبر وقف إطلاق النار، تمنّيتُ أن أفرح، لكن قلبي لم يستطع. من يفقد نصفه لا يكتمل أبدًا». نادر الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين يعيش بين الذكريات والكوابيس. يوضح: «كلما سمعت طائرة في السماء، أشعر أن القصف سيعود، أن البيت سيتهاوى من جديد».
يحاول أن يجد سببًا للابتسامة، لكنه لا يجد سوى الأسى. «الناس يحتفلون، وأنا أبحث عن أمي بين الغبار»، يقولها ويغرس نظره في التراب، كأن الأرض وحدها تفهم لغته.
في ساحة مدرسة مدمّرة في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تقف ليلى أبو صبحة ذات الستة عشر عامًا تحمل دفترها القديم المغبّر. في صفحته الأخيرة مساحة بيضاء لم تُكتب.
تقول وهي تنظر إلى السماء: «كنت أكتب أحلامي هنا، لكن الحرب محَت كل الكلمات». تشير لـ»القدس العربي» إلى مكانٍ خالٍ بين الركام وتقول: «هنا كان يجلس أخي في الصف، أسمع صوته كل يوم وأتظاهر بأنه ما زال يضحك».
عندما سمعت خبر الاتفاق، أسرعت إلى المقبرة حاملة دفترها، ووضعتْه فوق قبر أخيها. توضح: «كتبت على الصفحة البيضاء: عد سريعًا، فالقلم ما زال ينتظرك».
تبتسم ابتسامة صغيرة، لكنها سرعان ما تختفي: «سأفرح حين يعود وجهه في أحلامي، لا حين يعلنون وقف النار».

أرقام الوجع

وفق تقرير «تكاليف الحرب» الصادر في أكتوبر 2025، وهو مشروع بحثي من جامعة براون في الولايات المتحدة يُعنى بتوثيق التكلفة البشرية والمالية للحروب والنزاعات، بما في ذلك الحرب على غزة، بلغ عدد الشهداء في قطاع غزة نحو 67 ألف شخص، بينما أصيب أكثر من 169 ألفًا، ليصل مجموع الضحايا إلى أكثر من 236 ألفًا بين قتيل وجريح منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2025.
وتؤكد وزارة الصحة في غزة أن الغالبية العظمى من الضحايا من المدنيين، بينهم آلاف النساء والأطفال، وأن عشرات الآلاف ما زالوا تحت الأنقاض أو مفقودين.
أما على مستوى البنية التحتية، فقد دُمّرت آلاف المنازل والمدارس والمستشفيات، وانهار الاقتصاد المحلي بالكامل تقريبًا. وتشير تقارير أممية إلى أن أكثر من 85% من سكان القطاع نزحوا قسرًا خلال الحرب، وأن ما تبقّى من المدن يشبه أطلالًا أكثر منه حياةً بشرية.
يقول الدكتور سامي عويضة إن ما يعيشه الغزيون اليوم هو «حالة فقد جماعي» لم يشهدها العالم الحديث بهذا الحجم منذ عقود. يشرح قائلًا: «الفقد هنا ليس مجرد رحيل أحد أفراد العائلة، بل زوال العائلة كلها أحيانًا. إنها صدمة لا يقدر الإنسان على استيعابها بسهولة».
ويضيف لـ»القدس العربي»: «كثير من الناجين يشعرون بالذنب لأنهم ما زالوا أحياء، بينما مات أحباؤهم. البعض يعيش نوبات هلعٍ متكرّرة، والبعض الآخر يغرق في الصمت، كأنه فقد القدرة على الإحساس».
يؤكد أن الحالات النفسية ازدادت بشكل كبير، وأن «العلاج النفسي صار ضرورة ملحّة لا ترفًا، لأن من يفقد روحه لا يمكنه بناء حياةٍ جديدة».
ويتابع: «الدمار المادي يمكن ترميمه، لكن الجرح النفسي أعمق. الطفل الذي شاهد بيتَه يُقصف، وجمع أشلاء أصدقائه وإخوته في حقيبته المدرسية، والمرأة التي فقدت أبناءها، والرجل الذي دُفن جيرانه أمام عينيه – هؤلاء يحتاجون لسنوات من الدعم حتى يعودوا إلى الحياة».
ويختم بالقول: «حين يسكت السلاح، تبدأ المعركة الحقيقية مع الألم. يجب أن يفهم العالم أن وقف النار لا يعني وقف المعاناة».

بين الأمل والدموع

في اليوم الذي يُفترض أن يكون يومًا للراحة والفرح، يسود في غزة صمتٌ ثقيل. الناس ما زالوا في الشوارع بخطواتٍ مترددة، يحملون صور أحبائهم أكثر مما يحملون أعلام النصر.
تقول امرأة مسنّة وهي ترفع صورة ابنها: «لا أريد الاحتفال، أريد فقط أن يعود من رحلوا». المدينة المرهقة بالحرب تفتح عينيها على واقعٍ جديد، لكنه مشوب بالحذر. فالجراح لم تندمل، والذاكرة ما زالت مبللة بالدخان والدموع.
في كل زاويةٍ من غزة قصة فقدٍ، وفي كل شارعٍ وردةٌ موضوعة على حجرٍ صامت. ربما سيكتب الغزيون في الأيام القادمة فصلًا جديدًا من حياتهم، لكنهم لن ينسوا من رحلوا. فالحياة في غزة لا تعني النسيان، بل الاستمرار رغم الألم.
ومع كل زهرةٍ تُوضع على قبرٍ، ومع كل دمعةٍ تُسقطها أمٌّ على ركام بيتها، يهمس الغزيون للعالم: «نحن أحياء.. وسنظل نذكُر».

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات