أخبار عاجلة

حكم من استئناف بنغازي يعمّق صراع الشرعيات بين الشرق والغرب الليبي

في تطوّر جديد يُعيد تسليط الضوء على الصراع المتواصل بين حكومتي الشرق والغرب ويكشف بوضوح حجم الانقسام داخل مؤسسات الدولة الليبية، أصدرت محكمة استئناف بنغازي حكمًا بإلغاء القرارات التي أصدرها المجلس الرئاسي بشأن «تشكيل مفوضية وطنية للاستفتاء» موازية للمفوضية العليا للانتخابات، معتبرة تلك القرارات مخالفة للقانون ومعتدية على اختصاصات مجلس النواب. وبالرغم من الطابع القانوني للحكم، فإن دلالاته السياسية تبدو أعمق بكثير، خصوصًا في ظل توظيف «حكومة حماد» لأي مسار قضائي يعزّز موقعها السياسي المتداعي، ومحاولتها الظهور كحارس «الشرعية التشريعية» على حساب وحدة مؤسسات الدولة.
وحسب الحكم، فقد قبلت المحكمة الطعن المقدّم من رئيس الحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب أسامة حماد ضد مراسيم المجلس الرئاسي المتعلقة بإنشاء الهيئة الجديدة، وقضت بإلغاء القرارات المطعون فيها مع ترتيب آثار الإلغاء وإلزام المطعون ضده بالمصاريف. ورغم أن الحكم استند نصيًا إلى القانون رقم 8 لسنة 2013 الذي ينظم المفوضية العليا للانتخابات، فإن القراءة السياسية لمسار الأحداث تكشف أن الساحة الليبية تعيش جولة جديدة من الحرب المؤسسية بين الشرق والغرب، حيث بات القضاء نفسه جزءًا من هذا النزاع أكثر من كونه حكمًا فاصلًا.
المحكمة أوضحت في أسبابها أن قرارات المجلس الرئاسي جاءت متجاوزة لاختصاصاته ومعتدية على صلاحيات مجلس النواب. وأشارت إلى أن أي قرار يصدر من السلطة التنفيذية يجب ألا يتعارض مع القوانين النافذة عملًا بمبدأ سيادة القانون. غير أنّ هذه الحجج القانونية تكتسب في السياق الليبي دلالات سياسية محضة، خصوصًا أن حكومة حماد دأبت خلال الأشهر الماضية على استغلال أي مساحة قانونية أو قضائية للطعن في قرارات الرئاسي أو لرسم صورة أنها صاحبة «المشروعية» في مواجهة «سلطة منتهية الولاية»، بحسب خطابها المستمر.
هذا الحكم يعيد إلى الواجهة الخلافات الممتدة منذ نيسان/أبريل الماضي بين حكومة حماد والمجلس الرئاسي، عندما شنّت حكومة الشرق هجومًا عنيفًا على مراسيم الرئاسي المتعلقة بتعديل آليات القضاء وتشكيل هيئات جديدة، واعتبرت حينها تلك القرارات اعتداءً على اختصاصات السلطة التشريعية وتجاوزًا لصلاحيات رئيس الدولة كما يحددها الاتفاق السياسي. ووصفت الحكومة آنذاك تلك المراسيم بأنها تُنذر بـ»خلل وانقسام» في سير مرفق القضاء الموحّد، محذّرة من عواقب التفرد بالقرارات.
وفي الوقت نفسه، استمرت الحكومة في مهاجمة المجلس الرئاسي ورئيسه محمد المنفي، متهمة إياه بممارسات أحادية تُقوّض أي مسار لتوحيد المؤسسات، وبأنه يخالف مبدأ الإجماع داخل هيئة الرئاسة. وذهبت الحكومة إلى حد اتهام المنفي باستغلال الاعتراف الدولي الذي يُنظر إليه باعتباره مؤقتًا، بهدف فرض أجندته الخاصة والإضرار بالمسار التوافقي الوطني. وهي الاتهامات نفسها التي توظّفها حكومة حماد كلما اقتربت الأطراف الليبية من أي توافق سياسي، في إطار سعيها لحماية وجودها السياسي رغم هشاشته.
وعلى الجانب المقابل، شدد المجلس الرئاسي في مناسبات عديدة أن قراراته تستند إلى صلاحياته الدستورية، فيما أكد عضو المجلس عبد الله اللافي أن إصدار المراسيم يجب أن يتم جماعيًا، وأن أي قرار منفرد لا يمثل الرئاسي ولا ينتج أثرًا دستوريًا أو قانونيًا. موقف اللافي لم يكن موجهاً ضد حماد فقط، بل أيضًا ضد رئيس المجلس نفسه محمد المنفي، وهو ما يعكس أن الانقسام لم يعد محصورًا بين الشرق والغرب فقط، بل يمتد إلى داخل مؤسسات الغرب نفسها.
أما رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، فقد اعتبر المراسيم الرئاسية «تغوّلًا» على السلطة التشريعية، مؤكدًا أن التشريع هو اختصاص حصري للبرلمان، وأن أي محاولة من الرئاسي لوقف العمل بقانون المحكمة الدستورية أو تشكيل هيئات جديدة هو أمر منعدم وغير ملزِم. موقف عقيلة يأتي استمرارًا لخطاب متصل منذ أشهر، يشكّل غطاءً سياسيًا لحكومة حماد التي تعتمد أساسًا على شرعية البرلمان للبقاء في المشهد، رغم فشلها في إثبات قدرة حقيقية على إدارة مؤسسات الدولة أو تجاوز أزماتها الداخلية.
وبالنظر إلى جميع هذه التطورات، يتضح أن حكم محكمة استئناف بنغازي ليس مجرد قرار قضائي؛ بل هو حلقة جديدة في معركة الشرعيات التي تدور رحاها بين سلطتي الشرق والغرب، حيث تحاول كل جهة توظيف أدوات القضاء والإدارة لإكساب موقفها السياسي صفة القانونية. حكومة حماد تحديدًا تسعى إلى استخدام مثل هذه الأحكام لتجديد حضورها السياسي، وقطع الطريق على أي مسار تقوده حكومة الوحدة أو المجلس الرئاسي لإعادة صياغة هندسة المؤسسات أو الوصول إلى إطار انتخابي جديد.
غير أنّ استمرار هذا الصراع يهدد أكثر وحدة المؤسسات ويُبعد أي أفق لحل سياسي قريب. فكل قرار جديد -سواء من الرئاسي أو من حكومة حماد- يدخل مباشرة في دائرة الطعون والطعون المضادة، ما يعني تعطيلًا كاملًا لأي إصلاح انتخابي أو دستوري. وبينما تؤكد كل الأطراف التزامها بالمسار الوطني وبإجراء الانتخابات، فإن الواقع يشير إلى أن معارك السلطة واستعراض النفوذ أصبحت الأولوية الحقيقية.
وبذلك، يُكرّس حكم المحكمة اليوم صورة المشهد الليبي المنقسم: حكومة شرقية تسعى لتثبيت وجودها عبر القضاء، ومجلس رئاسي يتحرك منفردًا أحيانًا تحت مظلة الاعتراف الدولي، وبرلمان يرى نفسه المرجع القانوني الأعلى، وقضاء يتأرجح وسط كل هذا، فيما تبقى المؤسسات السيادية والعملية الانتخابية والشارع الليبي أكبر المتضررين من هذا الصراع المفتوح.

 نسرين سليمان

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات