كان أحمد صالح من بين من خرجوا فجر الخميس إلى شوارع غزة، محتفيا بالإعلان الأولي عن اتفاق وقف الحرب على غزة، والتي دخلت قبل أيام عامها الثالث على التوالي، هلل مع المحتفلين وأطلق الصافرات، وبداخله أمنيات كأقرانه المحتفلين، بأن تنعم غزة بالهدوء وتتوقف أصوات المدافع إلى الأبد.
احتفالات مناطق النزوح
أحمد الذي يقطن في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، استفاق على أصوات تهليل عالية وصرخات احتفالية من سكان الحي، شاركت وقتها أصوات الطائرات المسيرة ضجيج الطائرات الحربية، التي اعتاد عليها سكان غزة منذ بداية الحرب، والتي لا تفارق أجواءهم، وأصبحت شيئا من حياتهم، علم ممن في المحيط أن اتفاقا لوقف إطلاق النار جرى التوصل إليه بعد ثلاثة أيام من المفاوضات في مصر، وسيصبح نافذا عما قريب، نزل وقتها إلى الشارع وشارك في احتفاء السكان بهذا النبأ، الذي يأمل منه سكان قطاع غزة بإنهاء الحرب كاملة، وانتهاء ما خلفته من مآسي كبيرة، في مقدمتها مأساة فقدان الأحبة الذين يقتلون يوميا، ومأساة الجوع والمرض والنزوح.
ويقول هذا الشاب العشريني لـ”القدس العربي”، إنه والمحتفلين حملتهم فرحتهم على الخروج، دون أي اهتمام بالوقت المتأخر، حيث كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية فجرا، وأضاف “خبر وقف الحرب خلانا ننسى كل شيء”، وتابع “المهم نشعر بالأمن، الموت طول فترة الحرب يلاحقنا في كل مكان”.
ويستذكر هذا الشاب الأيام الـ42 التي توقف فيها صوت الحرب، حين جرى التوصل في 19 يناير الماضي لاتفاق أوقف إطلاق النار، وقد سارعت إسرائيل بعد إتمام عملية تبادل الأسرى، إلى إنهاء العمل بالاتفاق، وعادت إلى شن الحرب مجددا على غزة، وقال “الآن الكل نفسه يشوف وقف إطلاق نار دائم، ما نسمع لا صوت قصف ولا صوت طيارات، الكل نفسه ما يشوف النزوح ولا الجوع”، وختم قائلا “بكفي حرب”.
التهدئة لتسويق البضائع
وفي سوق المخيم المكتظ بالسكان والنازحين الذين فروا مؤخرا من وطأة الهجمات الحربية العنيفة على مدينة غزة، حين بدأت إسرائيل بتنفيذ العملية البرية الأخيرة، كان الحديث عن الحرب هو الشغل الشاغل للباعة والمتجولين هناك، ومن خلف بسطة المعلبات الغذائية والأطعمة صدح أحد الباعة في السوق الشعبي بصوت مرتفع “فول التهدئة، طحين التهدئة”، وكان ينادي على الزبائن لتسويق بضاعته.
وبشكل رسمي أعلن وسطاء التهدئة فجر الخميس عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في غزة، بعد موافقة الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، على المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تشمل وقف الحرب، واتمام عملية تبادل للأسرى، وتشمل هذه المرحلة تدفق المساعدات الإنسانية بشكل كبير، لإنهاء مأساة المجاعة وارتفاع الأسعار الجنوني للبضائع.
وصبيحة الخميس، احتفى السكان في الكثير من المناطق بالاتفاق، حتى قبل دخوله حيز التنفيذ، وهلل النازحون وأطلقوا التكبيرات في مشفى شهداء الأقصى، كما تجمع عدد كبير من السكان في منطقة شارع البحر بمنطقة مواصي خان يونس، وقاموا أيضا بالتهليل وترديد الهتافات.
وفي غزة كانت الفرحة ظاهرة على السكان في كل مكان، وبابتسامة عريضة قابل إبراهيم وهو نازح من شمال قطاع غزة، أحد زملاء النزوح ويدعى أبو هاني، عند صنابير مياه محطة التحلية، تبادل إبراهيم وهو رجل في منتصف العقد الخامس الحديث هذه المرة مع زميل النزوح بوجه باسم عن الاتفاق وعن آخر الأخبار الخاصة بالملف، على خلاف حديث اللقاء شبه اليومي عند ذلك المكان، الذي كانت فيه وجوه السكان والنازحين عابسة، ويشهد وجودهم مشادات في كثير من الأحيان، وإن تحدثوا يكون الكلام منصب عن الحرب والقصف والدمار، أو عن تأمين الطعام مرتفع الأثمان، وعن هموم الحرب ومأساة النزوح.
أحلام العودة
في وسط الحديث قاطع أبو هاني الحديث، وتنهد وهو يقبض بيده على جالون المياه مستعدا للعودة إلى خيمة نزوح أسرته، وقال “بتخلص الحرب وبنرجع وبظل أحبابنا هان”، وكان هذا الرجل من النازحين الكثر الذين استشهد أحباب لهم ودفنوا في مناطق النزوح، وأضاف وهو يغادر يحدث زميل النزوح “تنتهي الحرب وتبقى مرارتها”.
ويعيش سكان قطاع غزة وضعا صعبا وخطيرا للغاية، لم يشهده الفلسطينيون منذ بداية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بسبب الحرب التي دخلت عامها الثالث، بسبب المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي، وعمليات التدمير الكبيرة التي طالت كل مناحي الحياة، فدمرت نحو 80% من المنازل، وغالبية المصانع علاوة عن تدمير شبكات البنى التحتية والطرق، وهي حرب أعادت غزة إلى عشرات السنوات، وأجبرت 90% من السكان على النزوح القسري، كما أجبرتهم على سكن الخيام، وتحمل مشقة النزوح وشح الدواء والطعام.
وفي أحد تجمعات النازحين في المنطقة الغربية لمدينة دير البلح وسط القطاع، شرعت ابتسام وهي سيدة في بداية الخمسينات بتجهيز نفسها للعودة إلى منطقة سكنها شمال مدينة غزة، فأسرة هذه السيدة كغيرها الكثيرون من سكان المدينة، اضطروا مؤخرا إلى النزوح القسري من المدينة، بعد تصعيد إسرائيل الهجمات ضد المدينة، وتهديد السكان بالنزوح القسري، مع بدء الهجوم البري الكبير الذي هدف إلى احتلال المدينة بالكامل.
هذه السيدة التي دفعت أسرتها ثمنا باهظا كغيرها من الأسر من أجل نقل أمتعة النزوح، قالت لـ”القدس العربي”: “لو بنرجع مشي على الأقدام، المهم أعود لبيتي، ولو كان مدمر بعمل خيمة هناك”، وتحدثت عن مرارة النزوح القسري، والأوقات المتعبة التي تعيشها الأسر النازحة، في رحلة البحث عن المياه والطعام والطهي على مواقد النار.
وعبرت هذه السيدة عن أملها في أن لا تعود الحرب من جديد، على غرار التهدئة السابقة، حيث كانت وقتها من ضمن النازحين الذين عادوا إلى مدينة غزة، ولم تمهلهم إسرائيل طويلا حتى أعادت الحرب وشن الهجمات البرية، والنزوح من جديد، كما عبرت عن أملها كما جميع سكان غزة بأن ينتهي ما وصفته بـ”أخطر كابوس” عاشته فلسطين، وبمرارة تحدثت هذه السيدة عن حياة النازحين المريرة والسكن داخل خيام تتحول لأفران من شدة حرارة الصيف، وتكون أكثر بردا في الشتاء.
تعليقات الزوار
لا تعليقات