قال الدبلوماسي والوزير السابق الجزائري عبد العزيز رحابي إن العلاقات الجزائرية الفرنسية ما تزال رهينة الاضطراب المؤسسي في باريس، الأمر الذي يجعل من الصعب ـ حسبه ـ تحديد مخاطبين واضحين يمكن معهم فتح نافذة تسوية قبل الاستحقاقات الرئاسية الفرنسية لسنة 2027.
وأوضح رحابي في حوار له مع موقع “كل شيء عن الجزائر” الناطق بالفرنسية، أن تعدد الإشارات المتناقضة من الجانب الفرنسي يعقّد مهمة قراءة موضوعية وهادئة في الجزائر، مؤكداً أن جوهر الأزمة يرتبط أساساً بحرية تنقل الأشخاص وإقامتهم، وهي قضية انتخابية محورية في فرنسا بينما تمثل بالنسبة للجزائر مطلباً يتعلق بأمن وكرامة جاليتها.
وأشار الدبلوماسي إلى أن الخطاب السياسي الفرنسي ما زال يتعامل مع الجزائر كموضوع داخلي قابل للاستثمار السياسي، معتبراً أن مجرد ذكر الجزائر بشكل سلبي بات أداة لترقية سياسية لدى أطراف فرنسية، وهو ما يدفع نحو مزيد من المزايدات في الخطاب والمواقف. ورأى أن أي مصالحة ممكنة بين البلدين تقتضي وقف التصعيد في التصريحات والإجراءات التي تستهدف المصالح الدبلوماسية الجزائرية، مشدداً على أن تقاليد الدبلوماسية الجزائرية تقوم على معالجة جذور الأزمات بما يضمن استدامة الحلول.
ولفت رحابي إلى أن بعض الإجراءات الفرنسية مثل منع ممثلي السفارة والقنصليات الجزائرية من الوصول إلى الطائرات والسفن أو تعليق التراخيص القنصلية تمثل إجراءات مستوحاة من أجواء الحرب الباردة، لكنها بلا أثر فعلي سوى تعقيد تسيير شؤون الجالية. وأكد أن ما يبدو أزمة قنصلية ثانوية بالنسبة لفرنسا يُعتبر في الجزائر مسألة سيادية تمس بكرامة مواطنيها، وهو ما قد يؤثر على مشاريع الزيارات رفيعة المستوى وحتى على فرص العقود الاقتصادية.
وتوقف رحابي عند تصريحات الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بشأن ربط إصدار التأشيرات بعدد الجزائريين المرحلين الذين تستقبلهم بلادهم، معتبراً أنها تمثل “ابتزازاً” لا يليق بصاحبها، مذكراً بأنه هو من صنع إحدى كبريات المغالطات في العلاقات الجزائرية الفرنسية عندما روّج بأن الجزائر تطلب من فرنسا “التوبة” وهو ما لم يحصل أصلاً، وجعل منه منصة للوصول إلى الإليزيه.
ويشير الوزير السابق بكلامه إلى مصطلح التوبة الذي يحمل دلالات دينية وتم ترويجه في فرنسا لإبعاد الرأي العام الفرنسي تماما عن مبدأ الاعتذار الذي تطلبه الجزائر.
وواصل رحابي قائلا، بأن” ساركوزي يواصل التأثير داخل اليمين الفرنسي، ويتزعم اللوبي الموالي للمغرب، ويقدّم الجزائر كبلد معادٍ للغرب ومعطّل لمشروع الاندماج الإقليمي، لا سيما بعد مبادرته لإطلاق “الاتحاد من أجل المتوسط” الذي كان يهدف بالأساس إلى إدماج إسرائيل ضمن هذا الإطار”.
وأبرز المتحدث أن فرنسا سعت تاريخياً إلى لعب دور قوة مؤثرة في شمال إفريقيا، موازنةً للنفوذ الألماني في أوروبا الوسطى والإسباني في أمريكا اللاتينية، ولذلك بقيت تحرص على موقعها في المنطقة المغاربية بما يمنحها ثقلاً إضافياً داخل الاتحاد الأوروبي.
عدوان إسرائيل على قطر
وعلى الصعيد الإقليمي، وصف رحابي قصف إسرائيل لقطر بأنه “عدوان موصوف ضد دولة ذات سيادة لا توجد في حالة حرب معها”، معتبراً ذلك “إرهاب دولة” يستمر بفعل التسليح والدعم الدبلوماسي غير المحدود من الولايات المتحدة. واعتبر أن المجزرة المبرمجة في غزة ساهمت في كشف حقيقة إسرائيل للمجتمعات المدنية الغربية التي بدأت تدرك طبيعتها العدوانية، واصفاً ذلك بالتطور النوعي الأبرز منذ سنة 1948.
وأوضح أن الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بالهجوم الإسرائيلي على قطر ولم تعترض عليه، مؤكداً أن كل ما يخدم إسرائيل يخدم واشنطن في نظر صانعي القرار الأمريكيين، حيث يُقدَّم الكيان الإسرائيلي كضامن لأمن الخليج في مواجهة ما يوصف بالتهديد الإيراني. وشدد على أن الاعتداء على قطر يعيد القضية الفلسطينية إلى قلب معادلة الاستقرار الإقليمي، مبرزاً أن السعودية أصبحت واعية بذلك وتضع الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في صلب أي مبادرة دبلوماسية، وهو ما كانت الجزائر تطالب به منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ولدى تطرقه إلى مسلسل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على دول عربية عدة، أوضح رحابي أن إسرائيل قصفت منذ السبعينيات سبع دول عربية من دون أن تُدان بسبب الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن. وانتقد عجز الأمم المتحدة عن إصلاح مجلس الأمن، مبرزاً أن القوى الخمس دائمة العضوية غير مستعدة للتخلي عن امتياز الفيتو، ما يجعل المجلس تجسيداً لموازين قوى تعود إلى 1945، ولا تعكس الواقع الدولي الراهن. وأكد أن أحد أهم دوافع التعددية القطبية اليوم هو رفض قوى صاعدة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا استمرار الوضع القائم.
التوتر مع مالي
وبشأن التوتر مع مالي، اعتبر السياسي الجزائري أن باماكو لا تملك الوسائل الكافية لنهجها الحالي، ما يجعلها تستند إلى ضمانات أو دعم خارجي ضمن مسعى لإضعاف الجزائر. وقال إن السلطات المالية تستلهم أسلوب المغرب في تغذية توتر دائم مع الجزائر، وتسعى إلى إقحام شركائها في “تحالف دول الساحل” في هذا المسار، مفضلة خيار التصعيد بدلاً من استعمال هذه التحالفات كجسور نحو الجزائر. وانتقد لجوء مالي إلى محكمة العدل الدولية بعد ستة أشهر من حادثة الطائرة المسيرة التي أسقطها الجيش الجزائري داخل حدوده، معتبراً ذلك محاولة لتدويل خلاف ثنائي تقليدي بين دول الجوار.
وأشار رحابي إلى أن باماكو بالغت في اتهاماتها حين وصفت الجزائر بأنها “دولة راعية ومصدرة للإرهاب في الساحل”، وهو ما يجعل من غير المؤكد قبول الجزائر بالاحتكام إلى المحكمة الدولية. وأضاف أن صمت الجزائر الرسمي قد يعكس رغبتها في تجنب تكرار تجربة الاستنزاف مع المغرب، مشيراً إلى أن باماكو تسعى عمداً إلى إدامة القطيعة رغم رسائل التهدئة التي وجهتها الجزائر.
وبخصوص الدور الإفريقي للجزائر، فقد شدد رحابي على أن الجزائر مطالبة بالعودة إلى عمقها الاستراتيجي في القارة. واستعرض تجارب الرؤساء الجزائريين السابقين، مبرزاً أن هواري بومدين جعل من دعم حركات التحرر أولوية، فيما ركز الشاذلي بن جديد على التكوين والتعاون الثنائي، بينما اختار عبد العزيز بوتفليقة خيار إلغاء الديون دون تحويلها إلى استثمارات ضامنة للحضور الجزائري في القارة. ورأى أن المرحلة الحالية تتطلب مقاربة أقل أيديولوجية وأكثر اقتصادية، تقوم على تشبيك المصالح عبر مشاريع مصرفية وإعلامية وبحثية موجهة نحو إفريقيا.
تعليقات الزوار
لا تعليقات