أشتغل هذه الأيام على نص حول الرئيس هواري بومدين رحمه الله، وهو ما جعلني اعود إلى ما كُتب حوله، بمناسبة الذكرى 93 لميلاده التي تذكر المراجع المتداولة أنه كان في 23 أغسطس 1932 بدوار بني عدي بالقرب من قالمة، لعائلة فقيرة تعود في أصولها إلى الشمال القسنطيني – تراب ولاية جيجل الحالية. لأصل إلى هذه القناعة، بأننا لا نعرف الرجل ولم نكتب حوله ما كان يجب أن يُكتب من قبل الباحثين والمختصين في التاريخ والعلوم الاجتماعية بصفة عامة، وبأن ما كتب في بعض الأحيان بقي غير حرفي كشكل كتابة وتقديم، رغم ما جاء في بعض الكتابات من معلومات تُعرف لأول مرة، تساعد الباحث والمهتم على الوصول إلى صورة أكثر إنسانية للرئيس بومدين، الإنسان والوسط الاجتماعي والمسار السياسي.
بالفضول الذي أثارته سيرة الرجل في أكثر من محطة بما فيها وفاته المبكرة -توفي وعمره لا يتجاوز 46 سنة – وظروف نشأته وخصوصية ما ميز مساره العسكري والسياسي من سرعة في الوصول إلى المناصب العسكرية والسياسية التي احتلها. كلها محطات زادت في منسوب غموض الرجل، لدرجة أن الجزائريين لم يتعرفوا على اسمه الحقيقي (محمد بوخروبة) إلا بعد وفاته.
هو الذي حصل على جل تنشئته الاجتماعية خارج مؤسسة العائلة، التي غادرها وهو لم يتجاوز العشر سنوات، بدءا من مدينة قالمة، للدراسة عند عائلات تكلمت الكثير من المصادر على عدم ارتياح الطفل بوخروبة لإقامته عندها، ما جعل الأب الفقير والأمي يتدخل أكثر من مرة لتغيير مكان سكنه، الذي استمر بعيدا عن العائلة لغاية توجهه إلى قسنطينة للدراسة في معهد الكتاني الذي تعرف فيه الشاب بوخروبة على الكثير من الوجوه التي ستكون له مغامرات مهمة معها، كما حصل مع رفيق رحلته إلى القاهرة محمد الصالح شيروف.
رحلة كتب عنها شيروف الكثير من التفاصيل في شهادته التي ظهرت تحت عنوان «هواري بومدين رحلة أمل واغتيال حلم»، دار الهدى 2013 (204 صفحات) لم تكن موفقة دائما كشكل كتابة وعرض كان يمكن أن يستعين فيها بمتخصصين لمساعدته على إخراج أحسن لها للقارئ. تكلم بصدق واضح فيها عن رفيق دربه بوخروبة بالكثير من التفاصيل. منها معطيات أعرفها شخصيا لأول مرة.. ما حصل لهما من مغامرات داخل التراب الليبي، التي تكلم عنها بصدق ودون مواربة، على غرار لجوء الشاب بوخروبة إلى تقديم «خدماته الدينية» لبعض العائلات الليبية في قراءة القرآن على الموتى، أو حتى كتابة تمائم (حروز) لبعض النسوة. مقابل بعض النقود تساعدهم على اجتياز الصحراء الليبية الشاسعة. تفاصيل كان قد كلمني عنها العقيد أحمد بن شريف من سنوات، وهو يتحدث عن بومدين بنبرة فيها الكثير من السلبية، في أحد اللقاءات معه، وأنا أنجز معه مقابلة حول النخب السياسية.
الشاب بوخروبة، الذي يكون حسب شهادة زميله هو من كان وراء اقتراح تنظيم رحلة القاهرة مشيا على الأقدام، اعتمادا على معلومات جمعها في كراس صغير أحد أعمامه الذي حج راجلا، كما كانت العادة عند أبناء المنطقة المغاربية من الفقراء. معطيات أخرى جديدة تعرفت عنها لأول مرة تتعلق هذه المرة بإقامة الطالب بوخروبة في القاهرة، التي سجل للدراسة فيها بالأزهر، هو الذي كان غير راضٍ تماما عن التعليم التقليدي، الذي تلقاه بالكتانية بقسنطينة. الجديد الذي جاءت به شهادة زميل محمد بوخروبة، أن الشاب القالمي، قام زيادة على الانتساب للأزهر على تسجيل ثانٍ وثالثٍ بثانوية مصرية خاصة ـ الخديوية والسعيدية. سمح له بها تحكمه المعقول في اللغة الفرنسية، التي تمكن منها محمد بوخروبة أثناء دراسته في قالمة. تنويع في مؤسسات الدراسة قام به بوخروبة ابن الوسط الفقير، للانتقام من الحرمان الذي عانى منه في الجزائر، في وقت بدأت فيه عروض الدراسة المقدمة للجزائريين تتنوع أكثر. استفاد منها أكثر أبناء الفئات الحضرية والمحظوظة اقتصاديا. عكس الفئات الريفية الفقيرة، التي لم يكن يقترح عليها الاستعمار الاستيطاني السائد جزائريا إلا هذا النوع من التعليم الديني، الذي لم يقبل به بوخروبة، جعل الكثير من كتاب سيرته يتكلمون عن دراسة له في الزيتونة كحتمية سوسيولوجية، لم يقم بها في نهاية الأمر. وفضل عنها الأزهر، زاد عليه تعليما ثانويا عصريا مزدوج اللغة.
الرحلة للقاهرة وهي تعيش تحولات سياسية عميقة بعد الإعلان عن النظام الجمهوري، لم يستغلها ابن الفلاح الفقيرة للدراسة فقط، فقد تعرف فيها على الكثير من الوجوه السياسية التي سيكون لها شأن كبير بعد الاستقلال، لم تمر العلاقات معها بهدوء دائما. كما يخبرنا صديقه شيروف. فقد تعرف بوخروبة على الشاذلي المكي، ممثل حركة الانتصار الذي تدخل لصالحه لدى الشرطة المصرية لإطلاق سراحه بعد القبض عليه، نتيجة المشاركة في احتجاج أمام السفارة الفرنسية، بعد إيقافها للمنحة المالية التي كانت تقدمها لبعض الطلبة الجزائريين، بمن فيهم بوخروبة، الذي استفاد من جواز سفر فرنسي بعد تسوية وضعيته البيداغوجية. علاقة سرعان ما انهارت بعد رفضه التجنيد في الجيش الفرنسي. عكس محمد خيضر، الذي عوض الشاذلي المكي في تمثيل الحركة الوطنية الاستقلالية، والذي وصلت علاقات بوخروبة معه إلى حد الشجار الجسدي، بعد تدهور العلاقات معه، حين أصر على إخراجه ليلا من الشقة التي كان الحزب قد وضعها تحت تصرفه مع طلبة آخرين. شجار حصل بحضور أيت أحمد حسين، عديل محمد خيضر -الذي يكون قد شارك في هذه المنازلة بالبونية ضد المجموعة الطلابية! تدهور هذه العلاقة التي حاول الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين استغلالها لتأزيم العلاقة أكثر بين الطلبة وحزب الشيطان، كما كان يسمى الحزب الاستقلالي، حسب شاهد العيان في مرجعه المكتوب. الحزب الذي تظهر علاقات الشاب الازهري معه أكثر تطورا تكاد تصل إلى ما يشبه الانخراط، عكس ما كان شائعا في ابتعاده عن العمل الحزبي المنتظم.
حصول بوخروبة على تكوين عسكري قصير بالقاهرة سرّع من القطيعة مع مرحلة الدراسة، ودخول مرحلة النضج التي دشنها الشاب القالمي وهو يركب في باخرة دينا للالتحاق بما سيعرف لاحقا بتراب الولاية الخامسة، التي سيكون العقيد هواري بومدين قائدا لها وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين سنة.
بومدين الذين يكون قد استغل نضجه المبكر لتزعم مجموعة وجدة ولاحقا أعضاء مجلس الثورة، رغم انه لم يكن أكبرهم سنا، بل ويطيح بعرابه السابق، عبد الحفيظ بوصوف أبن الشمال القسنطيني مثله، اعتمادا على تحالفات وسعها لتشمل أبناء فئات ميسورة، اعتمد عليها بومدين في توسيع قاعدة حكمه وهو يقود تجربته السياسية بعد الاستقلال. ركًز فيها على روابط شخصية لم تنسه منبته الاجتماعي الشعبي.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات