سيكون الجزائريون هذه السنة على أبواب دخول مدرسي مفترض هذه الأيام، من دون أن يعرفوا بالضبط تاريخه، كما جرت العادة عندهم في السابق، حتى عندما كان البلد يعيش شبه الحرب الأهلية التي مرّ بها في تسعينيات القرن الماضي، أو عند انطلاق أول سنة دراسية بُعيد الاستقلال مباشرة، التي دشنت أول صراع سياسي – أيديولوجي حول المدرسة، بمناسبة تعيين أول وزير تربية. صراع حصل بين توفيق المدني المدعوم من قبل جمعية العلماء وعبد الرحمن بن حميدة الذي فاز بالمنصب بعد الدعم الكبير الذي وجده من قبل أحد رجالات الثورة الأقوياء وهو محمد خيضر ابن بسكرة، موقف تبنته فيدرالية جبهة التحرير للجزائر العاصمة القوية سياسيا في تلك الفترة التي كان بن حميدة أحد قياديها.
بن حميدة خريج مدرسة العاصمة للدراسات الإسلامية مزدوج اللغة، لم يكن بعيدا كثيرا عن التيارات الدينية الشعبية كوسط عائلي باعتباره حفيد مفتي العاصمة -عائلة بن ناصر – رغم قربه من الحركة الوطنية الاستقلالية، كممثل جيل شاب لهذا الوسط الاجتماعي الميسور والمثقف، لنكون أمام أول مشهد في الصراع السياسي – الأيديولوجي يهدف للسيطرة على المدرسة الجزائرية في أول سنة لها بعد الاستقلال، مباشرة بعد المغادرة الواسعة للمعلمين الفرنسيين، كان المقصود منها منع أول دخول مدرسي للجزائر المستقلة وإرباكه.
مشهد لن ينسينا ذلك الصراع الدولي الذي كانت المدرسة نفسها ضحيته على المستوى العربي هذه المرة، بين تيارات سياسية وأيديولوجية، انطلق هو الآخر في سنة الاستقلال نفسها، بين تلك التيارات التي كانت حاضرة عربيا، كالإخوان المسلمين الذين توافدوا كمعلمين واساتذة على الجزائر بأعداد كبيرة، بعد طردهم من قبل عبدالناصر، الذي تخلص منهم كعناصر معارضة أقلقته داخل مصر، ليربحهم كعمالة في الخارج ومداخيل مالية، بعد أن تكفل صديقه بن بلة، بدفع أجورهم في الجزائر، من دون أن يسأل عن البعد السياسي لهذا الحضور المصري الذي كان من اشد المدافعين عنه، باسم الدفاع عن التعريب، هو الذي كان لا يحسن الكلام أصلا بالعربية.
في هذا الوقت بالذات الذي كانت تتم فيه «صفقة أخرى» كانت أقل تنظيما وبأعداد أقل، مع أبناء تيارات سياسية وفكرية أخرى، كما كان الحال مع الشيوعيين – كانوا في الغالب سوريين وعراقيين- فضلوا الجزائر الاشتراكية، هروبا بجلدهم من أنظمتهم السياسية البعثية المعادية، التي كانت تريد الفتك بهم خلال العشرية الدامية ـ الستينيات – التي زاد فيها منسوب الصراع السياسي في المنطقة العربية، صراعات سياسية وفكرية وطنية وعربية، أيقنت أهمية المدرسة في هذا البلد البكر ثقافيا لإعادة إنتاج نفسها وفرض هيمنتها الفكرية والسياسية من خلال المدرسة بالذات، عبر الكتاب المدرسي والأستاذ، استمرت لغاية اليوم في الجزائر، كانت نتيجتها تلك الحمولة الأيديولوجية المبالغ فيها التي تعاني منها المدرسة التي تظهر بأشكال مختلفة، على رأسها إثقال كاهل التلميذ الجزائري بمحتوى دراسي مترهل وغير فعال – 13 مقررا مفروضا على تلاميذ السنة أولى، حسب بعض الخبراء والأولياء. التركيز على البعد الأيديولوجي جعل كل محاولة إصلاح لهذه المدرسة تتحول إلى مغامرة غير مضمونة العواقب، وصراع محتدم مع أطراف أيديولوجية وسياسية، ليس في وسع أي نظام سياسي مباشرتها بسهولة، لتكون النتيجة فشل أي عملية إصلاح، التي ارتفعت مع الوقت كلفتها السياسية، بالنسبة للحكام، الذين يشكون أصلا من ضعف الشرعية، سيكونون في حاجة ماسة لها إذا غامروا بعمل إصلاحي جدي، رفض القيام به كل رؤساء الجزائر لغاية اليوم، حتى عندما يكون لديهم المال والوقت، كما حصل مع بوتفليقة، تماما كما هو حال تبون منذ أربع سنوات، الذي لم يتجرأ على إنجاز أي مقاربة جدية، نستطيع القول معها إن المدرسة الجزائرية مقبلة على إصلاح جريء تقف في وجهه الكثير من القوى الاجتماعية، بما فيها المنظمة كالنقابات، التي سقطت في فخ المطالب الاجتماعية الفئوية كبرنامج عمل يكاد يكون وحيدا لديها، في وقت ضل فيه صاحب القرار الطريق إلى تلك القوى الاجتماعية التي يمكن أن تتبنى مثل هذه الإصلاحات، على غرار الفئات الوسطى التي عبّرت عن نزعة إصلاحية أكيدة واهتمام بمسألة نوعية التعليم عبرت عنه بالتوجه نحو المدرسة الخاصة، استغلها نظام التعليم الفرنسي والغربي عموما، لاستقطاب جزء مهم من النخبة الجزائرية، في وقت تفاقمت فيه الآثار السلبية لهذه المنظومة التعليمية – بكل مراحلها ـ وهي تبرز على أكثر من صعيد أثرا سلبيا في عملية إنتاج نخب نوعية، زادت في تعميق أزمة البلد وهو يفقد أكثر فأكثر إشعاعه الثقافي داخل محيطه الإقليمي والدولي، كما بينته الأحداث المتلاحقة التي كان آخرها، رفض قبوله في مجموعة البريكس التي لا تؤهله لها فعالية نظامه التعليمي والاقتصادي الذي يراوح مكانه منذ عقود، اكتفى فيه بما تجود به الطبيعة من ثروات تتجه نحو التقلص تحت تأثير عوامل عدة من بينها، النمو الديموغرافي الذي سيفرض على الجزائر حسب عديد التوقعات التحول إلى بلد مستورد للغاز والبترول – مصدر دخله الأساسي الأوحد – إذا استمر مستوى التطور الديمغرافي نفسه حتى بهذا النمو الاقتصادي الضعيف، تماما كما اكتفى في مجال التعليم بما تبقى من آثار إيجابية للتعليم الفرنسي استمر في الحضور لدى بعض الأجيال من الجزائريين.
لهذا نختتم بالقول إن أي إصلاح تربوي في الجزائر لا بد أن ينطلق من أعلى الهرم السياسي، الذي يجب أن يبادر به ويدعمه، مهما كانت الصعوبات والعراقيل التي سيجدها بكل تأكيد أمامه، نظرا للحمولة الأيديولوجية التي سيطرت على المدرسة والجامعة، وجعلتها غير قادرة على القيام بأدوارها المعروفة دوليا، إصلاح يتطلب جرأة سياسية وشرعية لدى من يبادر به، بالاعتماد على الفئات الاجتماعية التي لم تيأس من هذا الإصلاح الذي انتظرته طويلا، من دون أن يتم تحقيقه على أرض الواقع، قد تكون أولى الشروط الممهدة له فتح نقاش اجتماعي واسع تعود فيه الكلمة للعائلة وأصحاب الاختصاص من ذوي الخبرة الفعلية الذين يعيشون العصر الذي تخبرنا الكثير من المؤشرات أن الجزائر ونظامها التعليمي قد ابتعدت عنه كثيرا.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات