وليد، شاب في العقد الرابع من العُمر، موظّف بإحدى الإدارات العمومية، متزوج وأب لطفلين. كان يظنّ أنّ طباعه الحادة جزءٌ لا يتجزأ من شخصيته، إلى أن فقَد كل شيء.
الألم النّفسي لا ينشأ فقط من داخل المريض، بل يتضاعف حين يُقابل بالصمت، مثل حالة وليد، الذي بدا للناس ناجحاً، منضبطاً في عمله، ملتزماً بمسؤولياته، لكنّه داخل بيته كان شخصاً مختلفاً: قليل الحوار، سريع الغضب، يميل لفرض رأيه، لا يتحمّل النقد، ويُخفي مشاعره خلف قناع من القسوة.
حاولت زوجته مراراً تنبيهه إلى أنّ سلوكه يجرحها ويؤثر سلباً على أطفالهما. اقترحت عليه زيارة مختص نفسي، لكنه كان يردّ دومًا: "أنا مش مريض نفسي.. مجرد ضغوط."
ومع مرور الوقت، تفاقم التوتر وفشلت محاولات التفاهم، فانتهى زواجهما بعد سبع سنوات، لتبدأ مرحلة جديدة من الانهيار الصامت.
في العمل، تغيّر وليد. صار منعزلاً، يتغيّب دون مبرر، يفتعل الخلافات، وبدا عليه إرهاق داخلي لاحظه زملاؤه دون أن يفهموه، عندها تدخّل شقيقه الأكبر، وهو طبيب، وأقنعه بلقاء مختص نفسي. تردّد كثيراً، لكنه وافق في النهاية.
وبعد سلسلة من الجلسات، تبيّن أنه يعاني من اضطراب في الشخصية من النوع النرجسي، مصحوب بأعراض اكتئاب حاد ناتج عن صدمات نفسية غير معالجة منذ الطفولة.
كان وقع التشخيص صادماً، لكنه بدأ يفهم أن ردود أفعاله لم تكن "طباعاً صعبة"، بل أعراضاً نفسية قابلة للعلاج، لكنه بدأ رحلة التعافي، وشيئاً فشيئاً، أدرك كم خسر بسبب تجاهله لتلك الإشارات.
وليد ليس حالة فريدة، بل هو وجه من وجوه آلاف الأشخاص الذين يعيشون بيننا، يعانون في صمت بسبب غياب ثقافة الصحة النفسية وثقل وصمة المرض النفسي في المجتمع.
الصحة النفسية ..بين التهميش والحاجة الملحّة
لا يزال التوجّه إلى الطبيب النفسي في الجزائر محاطًا بالكثير من الخجل والخوف الاجتماعي. فالكثيرون يرفضون الاعتراف بأن ما يمرون به قد يكون اضطرابًا نفسيًا، ويفضّلون تبريره بمفاهيم عامة مثل "الضغط"، "الإرهاق"، أو "طبع الشخصية".
لكن هذا الإنكار لا يلغي الواقع، بل يفاقمه، ويؤدي إلى نتائج خطيرة مثل الطلاق، الانفصال العاطفي، الفشل المهني، الإدمان، وحتى ارتكاب الجرائم. وغالبًا ما تعود جذور هذه الحالات إلى أمراض نفسية لم تُشخّص أو تُعالج في الوقت المناسب.
ويُفاقم الوضع النقص الكبير في عدد الأخصائيين النفسيين، وضعف التكوين الأكاديمي في هذا المجال، إلى جانب الغياب شبه التام لبرامج التوعية بالصحة النفسية. هذا في وقت تعرف فيه البلاد انتشارًا متزايدًا لاضطرابات مثل الاكتئاب، القلق، الوسواس القهري، اضطرابات ما بعد الصدمة، اضطرابات الشخصية، واضطرابات النوم.
ما لا يُقال عن الاضطرابات النفسية في الجزائر
يتضاعف الألم النفسي حين يُواجه المريض ليس فقط معاناته الداخلية، بل أيضًا جدارًا من الإنكار الأسري، والتجاهل المؤسسي، والصمت الإعلامي.
ومع تزايد حالات الاكتئاب، اضطرابات القلق، والوسواس القهري، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا: هل نحن مستعدون كمجتمع للاعتراف بأنّ الألم النفسي ليس ضعفًا، بل حالة إنسانية تحتاج إلى فهم، علاج، واحتواء؟
في حديث صحفي، تؤكد الأخصائية النفسية بهية بلاكة أنّ المرض النفسي في المجتمع الجزائري لا يزال محاطًا بجملة من العوائق الاجتماعية والثقافية والمؤسساتية، ما يجعل الإفصاح عنه وطلب العلاج أمرًا معقدًا، بل يكاد يُعدّ من المحرمات في كثير من الأوساط.
وأوضحت بلاكة أنّ غياب الوعي العلمي بطبيعة الاضطرابات النفسية، والخلط الشعبي بين "المرض النّفسي" و"الجنون"، يُساهم في ترسيخ تصورات خاطئة تُعيق التشخيص المُبكّر وتمنع الوصول إلى العلاج المناسب. فالذهاب إلى الطبيب النفسي لا يزال يُنظر إليه كوصمة، بدل أن يكون خيارًا علاجياً طبيعيًا.
وتشير الأخصائية إلى أن الكثير من العائلات الجزائرية تتعامل مع الاضطرابات النفسية إمّا بالشفقة أو بالإنكار، بدل تقديم الدعم والمرافقة، ما يؤدي إلى عزل المريض أو تجاهله، وبالتالي تعقيد حالته وتأخير استجابته للعلاج.
وتُشدد على أن نجاح العلاج النفسي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوعي الأسرة، وتفهّمها لطبيعة المرض، واستعدادها لمرافقة المريض في مسار طويل يتطلب الصبر والتزامًا حقيقيًا، وليس مجرد وصفة ظرفية.
وتُركّز بلاكة على فئتين هاشتين في المجتمع: الأطفال والنساء، أما بالنسبة للأطفال الذين يعانون من اضطرابات نفسية أو إعاقات ذهنية، تقول إن بعض العائلات تقبل الوضع في البداية، لكنها سرعان ما تُخفي الطفل عن الأنظار خوفًا من نظرة المجتمع، رغم أنّ هؤلاء الأطفال في حاجة ماسّة إلى إدماج فعّال داخل محيطهم لتطوير مهاراتهم وشعورهم بالانتماء.
أما المرأة، خاصة في فترة اكتئاب ما بعد الولادة أو أثناء الاضطرابات النفسية المرتبطة بالتغيرات الاجتماعية أو الهرمونية، فهي كثيرًا ما تُترك وحيدة في مواجهة الألم. وغالبًا ما يغيب عنها الدعم الحقيقي من الزوج أو العائلة، بل قد تُجبر على التوقف عن العلاج تحت ضغط المحيط، مما يؤدي إلى انتكاسات حادة.
من جهة أخرى، تُسلّط بلاكة الضوء على أزمة النظام الصحي النفسي في الجزائر، الذي يعاني من اختلالات عميقة، على رأسها النقص الحاد في عدد الأخصائيين النفسانيين والعيادات المؤهلة. ففي بلد يزيد عدد سكانه عن 45 مليون نسمة، لا يتجاوز عدد الأطباء النفسانيين النشطين بضع مئات، مع تفاوت واضح في التكوين والمستوى.
وتُضيف أن نسبة المرضى الذين لا يُستكملون العلاج أو يكتفون بوصفات طبية دون جلسات مرافقة لا تزال مرتفعة، بينما يتطلب العلاج النفسي—سواء كان دوائيًا أو سلوكيًا معرفيًا—بروتوكولًا منتظمًا وطويل الأمد لتحقيق نتائج فعالة.
وعن أبرز الاضطرابات النفسية المنتشرة في الجزائر، تشير إلى تزايد ملحوظ في حالات:
الاكتئاب – اضطرابات القلق – اضطراب الشخصية النرجسية – اضطرابات ما بعد الصدمة – الوسواس القهري – اضطراب ثنائي القطب اضطرابات النوم
وتربط المختصة بعض هذه الاضطرابات بتجارب الطفولة المبكرة، مثل الإهمال، العنف، أو الحرمان العاطفي، والتي تظهر لاحقًا في أنماط سلوكية قد تؤدي إلى الطلاق، الفشل المهني، الإدمان، أو حتى الجرائم.
وتختم الأخصائية بدعوة واضحة إلى إحداث ثورة ثقافية ومجتمعية في نظرتنا إلى المرض النفسي، من خلال حملات إعلامية دائمة، وإدماج الصحة النفسية في المناهج الدراسية، وتكوين أطباء الأسرة على أساسيات التشخيص المبكر.
حين يرفض المجتمع رؤية المريض النفسي
تؤكد الأخصائية الاجتماعية والأسرية، الأستاذة بجامعة (الجزائر 2) زعيون حفصة أمال، أنّ الوصم الاجتماعي لا يزال أحد أبرز العوائق التي يواجهها المرضى النفسيون في الجزائر.
وقالت إنّ هذا الوصم يدفع العديد من المرضى إلى إخفاء حالتهم وتجنب طلب العلاج خوفًا من الرفض أو السخرية، ما يعمّق مشاعر العار والدونية، ويؤدي في كثير من الحالات إلى تدهور حالتهم النفسية أو انسحابهم من الحياة الاجتماعية.
وتشير زعيون إلى أن آثار الوصم لا تقف عند المريض فقط، بل تمتد إلى عائلته، التي قد تشعر بالحرج أو الذنب، وقد تلجأ إلى إخفاء المرض عن المُحيط، مما يولّد توترًا دائمًا داخل الأسرة.
كما أنّ بعض العائلات تعاني من الإقصاء الاجتماعي، خاصة حين يُربط المرض بالعوامل الوراثية أو يُنظر إليه كـ"عار عائلي".
وترى الأخصائية أنّ الحل يمرّ عبر تمكين المريض وأسرته معًا من الدعم والمرافقة النفسية، وتشجيع الحديث العلني عن المعاناة دون خوف أو خجل. كما تدعو إلى ضرورة إشراك المدرسة، الإعلام، والمؤسسات الدينية في تعزيز ثقافة تقبّل المرض النفسي، عبر التوعية المستمرة، وتوفير فرص الإدماج الاجتماعي والمهني للمصابين، كلٌّ حسب حالته.
تعليقات الزوار
لا تعليقات