السؤال الكبير في هذا السياق هو: ما هي كتب الأمير؟ وماذا كان يقرأ طوال حياته؟ وهل قاومت كتبه ومكتباته الحروب الطاحنة التي خاضها ضد الاحتلال الفرنسي؟ وبعد حرق الزمالة، عاصمته المتنقلة؟
الكتب تحدد علاقة الإنسان بالحياة وما يحيط بها من تعقيدات.
إن عظمة الأمير عبد القادر (1808-1883)، الشخصية المحورية في المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، تُعقّد مهمة الباحث نظراً لتشعب ممارساتها: من المثقف المتعلم إلى الفارس، إلى بطل المقاومة والحروب، إلى الرجل المحاور، إلى المنفي الذي شكل من خلال منفاه رؤية للعالم في أواسط القرن التاسع عشر.
هذا الرجل الاستثنائي، الذي ارتبط بعمق بقضية حرية شعبه، كان أيضًا مثقفًا رفيع المستوى، وفيلسوفًا، ومتصوفًا، أولى أهمية قصوى للمعرفة والكتب. ويتجلى شغفه بالمخطوطات النادرة في المكتبات التي أسسها على مدار حياته والتي نهبت لاحقاً في أغلبها.
تلخص هذه الجملة التي قالها الأمير في عز الحرب، علاقته الحيوية بعالم الكتب:
«أنتظر نهاية هذه الحرب التي فرضتها علينا فرنسا لأعود إلى كتبي».
وهكذا، تتشكل صورة رجل أدب الذي أصبح محاربًا بحكم الضرورة.
لقد كان الأمير قارئًا نهمًا وعاشقًا للكتب ووريثًا لعائلة من المتعلمين. فقد شاركته والدته ووالده وزوجته خيرة هذا الحب للمعرفة. كانت الزوايا والمدارس القرآنية توفر فرصًا كبيرة للتعلم. قصة قاسية تروى عن الأمير خلال غارة «تاقدمت». بعدما غادر الفرنسيون المكان وبعد التقتيل والحرق، اكتشف الأمير كتبًا لا يزال الدخان يتصاعد منها بين الأنقاض. كان رد فعله الأول هو إطفاء اللهب بيديه العاريتين، غير مكترثٍ بالحروق حتى نبهه أحد خلفائه.
لا غرابة في حب الأمير للكتب؛ فهي جزء حيوي من حياته، يروى عنه عزلته الدائمة. كان لا يأكل إلا قليلاً، ثم ينفصل للقراءات الدينية والقانونية والأدبية.
ينحدر عبد القادر من سلالة مرابطية نافذة من منطقة معسكر، تتبع الطريقة القادرية، وقد نشأ في بيئة متجذرة بعمق في المعرفة. كان والده، الشيخ محيي الدين، عالمًا محترمًا. في سن مبكرة جدًا، تلقى عبد القادر تكوينًا صارمًا في علم الكلام، والفقه الإسلامي، والنحو، والشعر، والمنطق، والرياضيات، والفلك، والفلسفة.
كان البيت العائلي يضم مكتبة غنية متوارثة عن الأجداد. كانت القراءة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، بما في ذلك للنساء، كما تشهد على ذلك والدته، لالا زهرة، التي كانت شخصية عالمة ومؤثرة.
خلال سنوات المقاومة (1832-1847) ضد الجيش الفرنسي، لم يتخلَّ الأمير قط عن كتبه. بل كان ينقلها معه حتى في تنقلاته عبر الصحراء، لا سيما في «الزمالة»، عاصمته المتنقلة التي خصص فيها خيمة للكتب كان يديرها سي محمد بلخوبي. كانت مكتبته تضم مؤلفات باللغة العربية بشكل أساسي، تغطي مجالات مثل علم الكلام والفقه الإسلامي (خاصة «الموطأ» للإمام مالك)، والطب، والعلوم الطبيعية، والتصوف (مع نصوص لابن عربي أو الحلاج)، بالإضافة إلى الشعر الكلاسيكي مثل شعر المتنبي أو الشعر الجاهلي.
كما كان شغوفًا بعلوم الحيوان وخاصة الخيول، وكان يكثر من الاقتباس من الجاحظ وكتابه الشهير «كتاب الحيوان».
بعد أن وافق على إنهاء الحرب عام 1847، بناءً على وعود فرنسية من ابن الملك الدوق دومال وضباطه الكبار، لم يتم الوفاء بها قط، سُجن عبد القادر في فرنسا بين فور لامالغ وقصر هنري الرابع في بو وقصر امبواز. قبل أن يتدخل نابليون الثالث ويطلق سراحه عام 1852 ليعبر نحو أرض الإسلام «في بورصة بتركيا»، ويستقر في دمشق، حيث أمضى السنوات الأخيرة من حياته وأعاد تكوين مكتبة التي كانت تضم مؤلفات دينية (قرآن، تفسير، حديث، فقه) ورسائل في التصوف، لا سيما لابن عربي، ونصوصًا في الفلسفة الإسلامية (الفارابي، ابن سينا)، وكتابات علمية وفلكية، وأعمالاً غربية مترجمة، من بينها أعمال فيكتور هوغو.
وعقب أحداث دمشق عام 1860 واتصالاته بالماسونية، دخلت بعض المؤلفات حول هذا الموضوع مكتبته أيضًا. كما كان يمتلك لفافة نسَب ثمينة يبلغ طولها خمسة أمتار، وهي محفوظة اليوم في قصر شانتيه.
كانت مكتبات الأمير أماكن للمعرفة والكتابة والنقاش. فيها كتب رسائله وخطبه وتأملاته، بالإضافة إلى كتابه الشهير (ذكرى العاقل وتنبيه الغاف» (المشار إليه في النص بـ Kitâb al-dhikrâ)، وهو كتاب ذو إلهام صوفي فلسفي.
من مكتبات الأمير الأربع، لم ينجُ سوى آثار متفرقة، أما مكتبة «معسكر» النواة العائلية الأولى، فقد دُمرت. ومكتبة «الزمالة» التي نهبتها قوات الدوق دومال (ابن الملك)، نُقلت وثائقها وحُفظت في قصر شانتيه. وحدها مكتبة دمشق حُفظت جزئيًا قبل أن تتشتت محتوياتها بين أفراد عائلته. وتُحفظ بعض المخطوطات التي عليها شروحاته اليوم في المتاحف أو المجموعات الخاصة.
كانت مكتبة معسكر امتدادًا للزاوية العائلية، وهي مكان للتلقين الصوفي حيث لقنه والده وسيدي الأعرج أصول الروحانية. ومن المعروف أن والده قد جلب مخطوطات نادرة من ضريح سيدي عبد القادر الجيلاني (بغداد) ومن ظاهرية دمشق عن طريق النسخ. كان الأمير مهتمًا بالنصوص المقدسة، بما في ذلك الإنجيل والتوراة، كما يتضح من نقاشه الشهير مع صديقه الحميم، المونسينيور أنطوان ديبوش، المذكور في مذكرات هذا الأخير.
قاد حب عبد القادر للخط العربي إلى أن يأمر بنسخ بعض النصوص بالخطوط المغاربية القديمة. ولا تزال بعض الأجزاء منها موجودة في شانتيه. هناك، تشكل المخطوطات المحفوظة البالغ عددها 38 كنزًا حقيقيًا. عند سقوط الزمالة، سلّم سبايسية الدوق دومال لسيدهم مجموعة من المخطوطات التي عثروا عليها في خيمة سي محمد بالخُرّوبي، ناسخ الأمير ومستشاره الوفي، ومسؤول كتبه ومخطوطاته وتعكس هذه اللفتة رؤية الأمير تنظيمًا للمعرفة، يتمحور حول أمين مكتبة حقيقي، حيث يمكن لأتباعه إرواء عطشهم للقراءة.
يكشف عالم الكتب لدى الأمير عبد القادر عن جانب غالبًا ما يتم تجاهله من شخصيته: جانب المفكر الإنساني، والمتصوف، والمثقف. فبعيدًا عن دوره العسكري، كان بنّاءً للأفكار ورجل كتاب. وتشهد مكتباته، سواء دُمرت أم حُفظت، على ثراء فكري وروحي استثنائي رفع مقام الأمير عبد القادر عالياً.
واسيني الأعرج
تعليقات الزوار
لا تعليقات