في تحرّك سياسي مشترك نادر خلال السنوات الأخيرة، دعت ثلاثة أحزاب جزائرية من مشارب سياسية مختلفة الرئيس عبد المجيد تبون إلى تجميد قانون المناجم الجديد، معتبرةً أنه يكرّس – حسب تعبيرها – “التنازل عن السيادة”، ويحوّل القطاع إلى مجال للنهب الأجنبي.
وفي بيان مشترك، أعربت أحزاب: “التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية” (الأرسيدي)، و”حزب العمال”، و”حزب جيل جديد”، عن “قلق بالغ” تجاه القانون الجديد المتعلّق بالأنشطة المنجمية، الذي صادق عليه البرلمان مؤخّرًا بالتزامن مع الاحتفالات بالذكرى 63 للاستقلال الوطني، واصفةً إيّاه بأنه يشكّل “تطوّرًا تشريعيًا وسياسيًا خطيرًا ومؤذيًا للبلاد وللأجيال القادمة”.
وأوضحت الأحزاب الموقّعة أنها قرّرت، رغم اختلاف برامجها، توحيد جهودها لتحذير الرأي العام من المخاطر التي يحملها هذا القانون، الذي وصفته بأنه “تغيير جذري وعنيف في التوجّه الذي يحكم قطاع المناجم”، واعتبرته “يتعارض مع المصالح الوطنية، ويمثّل إلغاءً للتأميم وخوصصة صريحة لقطاع حيوي، في خرق صارخ للدستور”.
وأشار البيان إلى أن القانون الجديد “يلغي الطابع الإستراتيجي لقطاع المناجم”، و”ينهي قاعدة 51/49” (قاعدة الأفضلية الوطنية)، التي كُرّست في 2014 ضمن مسار إعادة تأميم المناجم بعد ثلاثة عقود من “النهب الأجنبي”، موضّحين أن النص التشريعي الجديد “يُخرج القطاع من الملكية الجماعية للأمة، رغم أن هذه الأخيرة غير قابلة للمساس حسب المادة الثانية من الدستور”.
وبموجب القانون الجديد، يمكن للشركاء الأجانب، حسب الأحزاب، امتلاك ما يصل إلى 80% من الأسهم، مقابل نسبة لا تتجاوز 20% للطرف الجزائري العمومي، في إطار عقود امتياز تمتد إلى 30 سنة قابلة للتجديد والتنازل والرهن، ما يفتح الباب – حسب الموقعين – أمام “دخول كيانات أجنبية، قد يكون بعضها معاديًا للجزائر، بتمويل من الخزينة العمومية”.
وحذّر الموقعون من أن هذا التطوّر يعيد سيناريوهات “نهب الثروات” التي شهدتها البلاد خلال تجربة إلغاء التأميم في 2001، مستشهدين بما وصفوه بـ”الافتراس الإجرامي” الذي طال مناجم الونزة وبوخضرة في تبسة من طرف شركتي “ميتال ستيل” و”أرسيلور ميتال”، ومنجم أمسمسة في تمنراست من طرف الشركة الأسترالية “AMG”، حيث لم تُنفّذ استثمارات حقيقية، وتُركت المناجم في حالة خراب تطلّب تدخلًا مكلفًا من الدولة.
وأضاف البيان أن تجارب دولية أثبتت أن الشركات المتعدّدة الجنسيات لا تراعي مصالح الدول المنتجة للثروات، ولا تلتزم بحماية البيئة أو الصحة العامة، متسائلين: “ما الفائدة من ملكية الأرض دون التحكم في الثروات التي تحتويها؟”، ومؤكدين أن القانون الجديد يمثّل “تنازلاً عن ثروة لا تُقدّر بثمن ومنقذة لأجيالنا”.
وشدّدت الأحزاب على أن “الرهان الجيوسياسي للمناجم شديد الحساسية ومرتبط بالأمن الوطني”، واعتبرت أن القانون الجديد “لا يوفر أي حماية للبلاد، ويفتح الباب لفقدان السيادة على مواردها الطبيعية”.
ورأى البيان أن هذا التحوّل التشريعي يأتي في سياق دولي تُفرض فيه أنظمة افتراس الثروات لصالح الشركات متعددة الجنسية، مؤكدين أن الرد لا يكون إلا عبر “فتح نقاش وطني واسع لتحقيق إجماع ضروري حول القضايا التي ترسم مستقبل الجزائر”.
وذكّر البيان بأن قطاع المناجم تطوّر، منذ تأميمه عام 1966، بفضل جهود الدولة وإطاراتها، وأن الجزائر لا تزال تموّل البنى التحتية الضرورية لتنمية هذا القطاع، متسائلين عن “معقولية استفادة مستثمرين أجانب من هذه المزايا على حساب مصالح الشعب”.
وعبّرت الأحزاب عن استغرابها من الخطوة “غير المفهومة” التي “ترهن مصير البلاد”، خصوصًا أن الموارد المنجمية الجزائرية تتضمّن معادن نادرة وثمينة، يمكن أن تشكّل – حسب البيان – مصدر دخل مهم في مواجهة الأزمات البترولية، شرط أن تبقى تحت سيطرة الدولة.
كما استنكرت الأحزاب احتمال أن يؤدّي هذا المسار إلى خوصصة قطاع المحروقات كما حدث سنة 2005، ما قد يعيد البلاد إلى مستنقع المديونية الخارجية، ويفضي إلى تآكل المكاسب الاجتماعية وتلاشي فرص التنمية الاقتصادية المستقلة.
وأشار البيان إلى أن الجزائر اليوم “غير مرهونة للديون الخارجية، ولا تعتمد على مساعدات أجنبية”، ما يمنحها استقلالية في القرار، ويجعل من “غير المبرّر” التنازل عن سيادتها في هذا التوقيت. كما تساءل الموقعون عن أسباب تبنّي الحكومة لهذا التوجّه، مؤكدين أن الرئيس عبد المجيد تبون لم يطرح هذا التوجّه في برنامجه الانتخابي، وكذلك البرلمانيون الذين أقرّوا النص بأغلبية واسعة.
واختتمت الأحزاب بيانها، رغم انتماء بعضها إلى المعارضة الراديكالية، بتوجيه نداء مباشر إلى رئيس الجمهورية، بصفته “حامي الدستور”، داعية إياه إلى “تجميد هذا القانون اللا دستوري واللا وطني، من خلال الامتناع عن سنّه”، ومؤكدة أن الثروات المنجمية ملك للشعب، ولا يجوز التنازل عنها لصالح أطراف أجنبية.
ويُعدّ هذا أول بيان مشترك حول قضية وطنية منذ سنوات، رغم وجود تقاليد سابقة للتكتل السياسي بين الأحزاب منذ تسعينيات القرن الماضي. وكانت تكتلات الأحزاب قد ظهرت بوضوح خلال أواخر فترة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، حيث دعت حينها إلى تنظيم انتقال ديمقراطي.
ومنذ طرحه قبل أشهر، ثم المصادقة عليه من قبل البرلمان بغرفتيه، لاقى مشروع قانون المناجم معارضة صريحة من قبل أحزاب معارضة، وحتى بعض النواب، لكن دون أن يغيّر ذلك مسار الأحداث، بفعل تمتع الحكومة بأغلبية مريحة في البرلمان، سمحت لها بتمرير القانون دون عناء.
إلى جانب الأحزاب الثلاثة، كانت “جبهة القوى الاشتراكية”، وهي أقدم حزب معارض في الجزائر، قد طالبت بسحب النص، مع إبداء رفض صريح له، واعتبرته “يكرّس التبعية الاقتصادية تحت غطاء تشجيع الاستثمار”.
وشدد يوسف أوشيش، مسؤول “جبهة القوى الاشتراكية”، في تدخلاته على أن فتح القطاع أمام الشركات الأجنبية دون ضمانات سيادية صارمة، يمثل “تفريطًا خطيرًا في مكاسب الشعب الجزائري”، مبرزًا أن المشروع يتجاهل المبادئ التي بُني عليها الاستقلال الاقتصادي للجزائر.
وضمّت الجبهة صوتها إلى المطالبين بـ”تجميد المشروع فورًا”، وإعادة صياغته بالتشاور مع النقابات، والباحثين، والخبراء الاقتصاديين، ومنظمات المجتمع المدني، بما يضمن توازنًا حقيقيًا بين الحاجة إلى الاستثمار، وضرورة حماية الثروات الوطنية.
وخلال مناقشات البرلمان، لم يُخفِ عددٌ من النواب رفضهم لمشروع القانون، وطلب بعضهم حتى سحبه من أجل عرضه على نقاش وطني موسّع. وفي مداخلته، طالب النائب أحمد ربحي بسحب المشروع، وإعادته للنقاش على نطاق يشمل كل قوى الأمة، معتبرًا أن القانون لا يتعلّق فقط بتنظيم قطاع اقتصادي، بل بتسيير ثروات الأجيال ومستقبل الصراعات الدولية، لا سيما في ظل التنافس العالمي على المعادن الثمينة كالذهب والليثيوم.
وأعرب عن رفضه للصيغة الحالية، خاصة بعد حذف القطاع من قائمة النشاطات الإستراتيجية، وتقليص نسبة مشاركة الدولة إلى ما وصفه بـ”النسبة الضئيلة”.
وختم النائب مداخلته بالتأكيد على أن مشروع القانون هذا يفوق، من حيث الأهمية، مشروعي قانون الأحزاب والجمعيات، اللذين توسعت فيهما الاستشارة، معبّرًا عن قناعته بأن الأمر يتعلّق بسيادة وطنية وثروة مستقبلية لا يمكن التفريط فيها.
موقف الحكومة
في المقابل، ترفض الحكومة فكرة أن المشروع يرهن السيادة الوطنية. وأكد وزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة، محمد عرقاب، أن مشروع القانون – عكس ما يُشاع – يعزز السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية، مشددًا على أن هذا المبدأ “أساسي ومقدّس” ولا يمكن التنازل عنه.
وجاء في رده على انشغالات النواب أن المادة 3 من المشروع تنص صراحة على أن “المواد المعدنية والمتحجرة المكتشفة أو غير المكتشفة، المتواجدة في المجال البري الوطني السطحي والباطني أو في المجالات البحرية التي تمارس الدولة عليها سيادتها أو حقوقها السيادية، هي ملكية عمومية للمجموعة الوطنية”، مضيفًا أن هذا المبدأ يشكّل “حجر الزاوية” لسيادة الجزائر على مواردها.
وبخصوص فتح رأس مال المشاريع المنجمية للاستثمار الأجنبي، أوضح عرقاب أن هذه الخطوة لا تشكّل تهديدًا للسيادة، بل تُعدّ آلية لجلب الخبرات والتكنولوجيا ورؤوس الأموال الضرورية لتطوير قطاع يتطلب استثمارات ضخمة ويتحمّل مخاطر عالية، مع الحفاظ على آليات قوية لحماية المصالح الوطنية.
وأكد الوزير أن استغلال الموارد يخضع لإلزامية إنشاء شركات خاضعة للقانون الجزائري، ما يضمن للدولة نسبة كبيرة من العائدات، مع حق المستثمرين في تحويل أرباحهم بعد دفع كافة الرسوم والإتاوات وحقوق الشركة الوطنية.
وفي ما يخص قاعدة الأفضلية الوطنية (51% جزائري مقابل 49% أجنبي)، أوضح أن الهدف من المراجعة هو إيجاد توازن بين جذب الاستثمار وحماية المصالح الوطنية من خلال آليات أكثر مرونة وفعالية، مثل “حق الشفعة” و”الرقابة الصارمة”.
وأشار عرقاب إلى أن الدولة تحتفظ بحق تنظيم ومراقبة النشاطات المنجمية من خلال القوانين ودفاتر الشروط التي تفرض التزامات صارمة على المستثمرين، خصوصًا في ما يتعلّق بحماية البيئة والتنمية المحلية.
وتزخر الجزائر، التي تُعدّ أكبر بلد عربي وإفريقي من حيث المساحة، بثروات منجمية متنوّعة تشمل الحديد، الفوسفات، الزنك، الرصاص، الذهب، الرخام، واليورانيوم، إضافة إلى معادن إستراتيجية نادرة مثل الليثيوم والمنغنيز والنحاس. وتُعدّ مناجم الحديد في الونزة وبوخضرة، ومناجم الذهب في الجنوب، من أبرز المواقع، كما تشير دراسات حديثة إلى أن الصحراء الجزائرية تحتوي على احتياطات واعدة من اليورانيوم والمعادن النادرة، التي تكتسي أهمية متزايدة في الصناعات التكنولوجية والعسكرية.
تعليقات الزوار
لا تعليقات