خلال 24 ساعة الأسبوع الماضي فقدت الجزائر رجلين ما كان يجب أن يرحلا في هذا الصمت المطبق. أولًا لأنهما كانا لهما دور وصوت في الحياة العامة، وثانيا لأن هذا الدور والصوت كان مثيرا للجدل وكفيلا بتحريك الأفكار والأدمغة (لو كنا في بلد يفكر ويشجع على التفكير).
الرجلان هما اللواء محمد بتشين، أحد أقوى قادة الجيش الجزائري، وبالذات نواته الأمنية، والكاتب السياسي والسفير السابق عثمان سعدي، أشد المدافعين عن اللغة العربية وعن الهوية العربية الإسلامية للجزائر بلا منازع. ظل وفيًّا لمبادئه طيلة حياته لم يحد عنها قيد أنملة رغم ما جلبت له من معايرة وشتائم من بعض عديمي الذوق.
لا مبالغة في القول إن رحيلهما، علاوة على أنه خسارة فادحة لذويهما، هو أيضا خسارة مؤلمة للجزائر كلها.
رغم بُعد أحدهما عن الآخر، نظريا، إلا أن بتشين وسعدي يشتركان في كونهما، خلال حياتهما، كانا من أشد الخصوم السياسيين والعقائديين للتيار الفرنكوفوني في الجزائر. وهذا التيار الفرنكوفوني، وحتى الفرنكوفيلي، أمر واقع في الجزائر يتغلغل منتسبوه في دواليب الثقافة والسياسة والأعمال وفي أوصال السلطة السياسية والإدارية في الجزائر وصولا إلى قمة هرمها. ولا زال نفوذه واضحا رغم ما يقال عن تراجع اللغة الفرنسية ومصالح فرنسا في الجزائر. على مَن أراد أن يعرف أن هذا التيار حقيقة وأن بتشين وسعدي من أشد خصومه، أن يتابع تغطية الصحافة المفرنسة في الجزائر لوفاة الرجلين وجنازتيهما. أيضا، في مقابل منصات التواصل الاجتماعي التي غصّت بقطعان الغوغائيين من شامتين ومفرطين في التمجيد، خلَى الفضاء العام من أيّ نقاش جاد كأن البلد مخدَّر لا يتألم لموت رجال من قامة بتشين أو سعدي بما لهما وعليهما.
لست بصدد تمجيد الرجلين ولا في وارد الشماتة فيهما. أحاول فقط أن أشرح كيف تتفنن الجزائر في خسارة رجالها من دون أن تشعر بحجم الخسارة. كل ما أصبح يكلف البلاد في مثل هذه المواقف المؤلمة، تغريدة ركيكة منسوبة لرئيس الجمهورية ودقائق معدودة في نشرة أخبار التلفزيون عن الجنازة تشعر أن أصحابها يستعجلون نهايتها. إضافة إلى فضاء فيسبوك حيث يتسابق الأميّون على تقيؤ جهلهم وجبنهم.
من المفروض أن الاختلاف مع الرجلين لا يجب أن يكون ذريعة لتجاهل وفاتهما، ولا سببا للشماتة أو البهجة. لكن هذا ما حدث. مع افتراض حسن النية واستبعاد فرضية التجاهل، هناك تقصير كبير في حق الرجلين في موتهما مثلما في حياتهما. الأمر بحاجة إلى نضج أكبر ورقيٍّ أخلاقي وثقافي وسياسي. لسوء الحظ أن هذه السمات اختفت من فضاء النقاش العام في الجزائر. التصحر الفكري المنتشر على نطاق مخيف، بتشجيع من السلطة الحاكمة، تعززه قلة المروءة والأمراض النفسية المستفحلة في منصات التواصل الاجتماعي.
شخصيا أعتبر اللواء محمد بتشين مسؤولا، مع آخرين، عن المأساة التي غرقت فيها الجزائر منذ 1988. لكنني، وبكل تجرد، أعتبر أن رحيله عن هذه الدنيا من دون أن يترك شهادة مسجلة أو وثائق تنوّر الجزائريين، مثل حريق مكتبة قومية أو مركز أرشيف إقليمي.
وأعتبر وفاة سعدي، الذي لطالما راسلني تعليقا على مقالاتي في هذه الصحيفة (ليس بالضرورة متفقا مع مضمونها) تشبه تضعضع ركن من أركان متحف ثقافي قديم.
هناك حقيقة مؤلمة: الجزائريون المؤثرون في الشأن العام لا يكتبون (ولا يقرؤون). والذين يكتبون منهم، يفعلون متأخرين وبحذر وتحفظ شديديَن، أو مدفوعين برغبة في الانتقام وتصفية حسابات مع أندادهم. بعضهم يعاني من عقدة مع ماضيه، مثل اللواء المتقاعد خالد نزار الذي كلما نطق مسؤول سابق يشعر (نزار) أنه يقصده! هذا ما يفسر في جانب ما غزارة مؤلفات وزير الدفاع السابق مقارنة بزملائه. وبعضهم الآخر يخشون عواقب المستقبل.
كل هذا مفهوم بالنظر إلى حساسية الأمور وضرورة مراقبة التوازنات المعقدة.. الثقافية والمناطقية والتاريخية واللغوية والعقائدية.. إلخ. لكن الامتناع الكلي مؤذٍ للذاكرة الجمعية ويصبح خذلانا للجزائريين وحقهم في معرفة ما يحق لهم معرفته. لسنا بصدد طلب كشف أسرار لا يمكن كشفها في بلد ملغوم بماضيه، بل بأقل الممكن لانتشال الناس من ظلام اللامعرفة.
غياب الإدلاء بالشهادة للتاريخ يضاف له غياب النقاش العام الجاد المثمر في هذا البلد المنكوب بنخبه السياسية والثقافية. مراكز الأبحاث منعدمة في البلاد. كلية العلوم السياسية مصنع لتطوير الرداءة. وسائل الإعلام غارقة في التسبيح بحمد تبون والترويج لشيوخ دخول الحمَّام بالقدم اليمنى أو اليسرى. الجامعات غارقة في مشاكلها وبعضها منشغل بتحليل «الأبعاد السوسيولوجية لخطاب الرئيس تبون أثناء القمة العربية!» (حقيقة وليس نكتة).
أتمنى أن يكون في عائلة بتشين وسعدي مَن استطاع تسجيل ذكرياتهما واستغلال خزنة معلوماتهما. وإنْ وُجدوا أتمنى أن يستطيعوا سبيلا لنشرها بسرعة. وإلا سيلتحق الرجلان بقافلة الشاذلي بن جديد والعربي بلخير ومحمد العماري وعبد الحميد المهري وأحمد بن بلة وعباسي مدني واسماعيل العماري ومصطفى بلوصيف. كل هؤلاء رحلوا تاركين الجزائريين فريسة للعطش التاريخي والسياسي يتلاعب بهم مُدَّعيي المعرفة في فيسبوك وغيره.
الخوف على الجزائر من الجهل التاريخي والسياسي يجب أن يكون أكبر من الخوف على الاقتصاد والتنمية فيها. إذا لم يدرك الجزائريون هذه الحقيقة فالطريق أمامهم حتما طويل ومظلم.
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات