أستطيع أن أدعي بأن المئات بل الآلاف بل عشرات الآلاف قد أحسوا بسعادة بالغة وهم يتابعون تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتراجع اللغة الفرنسية في منطقة المغرب العربي.
وكان كثيرون يأملون في أن يمتلك ماكرون شجاعة الاعتراف بالسبب الحقيقي لذلك التراجع، وخصوصا في الجزائر.
وللتذكير بكل اختصار، نجد أن تجمع الفرانكوفونية هو استنساخ مشبوه لفكرة الكومونولث الذي ابتكرته بريطانيا لتحتفظ بعلاقة متميزة مع مستعمراتها السابقة، تمكنها من الحفاظ على مصالحها في حدود الممكن والمتاح.
واختارت بريطانيا عنوانا اقتصاديا براقا يعني “الثروة المشتركة” (COMMONWEALTH) لكن فرنسا جعلت عنوان التجمع “اللغة الفرنسية”، والهدف واحد، لكنه أكثر خبثا وأقل ذكاء.
ومن هنا جاءت حساسية الجزائر من هذه المنظمة، ولم يكن هذا مجرد وهم، فقد ورد في الموقع الرّسمي للمنظمة الدولية للفرنكوفونية في التعريف بها ما يلي:
“تمثل الفرنكوفونية مجالا من أكبر المجالات اللّغوية العالمية، فهي ليست مجرّد تقاسم لغة، لأنها تعتمد أيضا على أساس الاشتراك في القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية. ويمثل هذان العنصران الدّعائم التي ترتكز عليها المنظمة الدّولية للفرنكوفونية”.
وواضح هنا أن تعبير “القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية” ليس مجرد تعبير بلاغي، بل إن التفكير فيه بعمق يمكن أن يفضح تناقضه مع الانتماء العربي الإسلامي للوطن الجزائري، ويصبح الهدف هو ربط الدول الأعضاء في المنظمة بفرنسا سياسياً واقتصاديا وفكريا.
ومن هنا رفضت الجزائر تماما الانضمام لمنظمة ظاهرها ثقافي وخلفيتها استعمارية محضة.
ولقد أعطت الجزائر المستقلة اللغة الفرنسية في سنوات معدودة وجودا يتجاوز عشرات المرات ما أعطاه لها الاستعمار الفرنسي خلال أكثر من قرن وثلث قرن، وكان الهادف أن تكون بلادنا جسرا بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية، لكن “السوسة المدسوسة” نجحت في تحويل الفرانكوفونية إلى “فرانكوفيلية” (الاستلاب الفكري) ثم إلى “فرانكومانية” (التعصب اللغوي) ، أصبحت الآن “أرابوفوبيا” (كره العربية) متنمرة متزايدة، وكانت الأصابع الفرنسية وراء كل ذلك.
بل أن المصالح الفرنسية تختار المنتمين لمناطق معينة في إعطاء المنح الدراسية بل وفيمنح تأشيرات الدخول إلى بلاد الجن والملائكة، وذلك باعتراف سفير فرنسي سابق.
وأتذكر هنا بشجن كبير أن وزير الخارجية فرنسا رولاند دوما، على ما أتذكر، حاول أن يتناول مع الرئيس الشاذلي بن جديد قضية مدرسة “ديكارت” الفرنسية الشهيرة التي كانت الجزائر تعتزم إغلاقها، غير أن الرئيس قال له بحزم وهو يقف معلنا انتهاء المقابلة: هي قضية سيادة وطنية معالي الوزير.
وربما كان من الأسباب التي تثير كراهية جماعة “فولتير” أو “كولوش” من الرئيس هواري بو مدين قوله أكثر من مرة: لست مدينا بشيئ لفرنسا، والقوم هناك لا ينسون ما قاله للرئيس جيسكارد ديستان: طوينا صفحة الماضي نهائيا لكننا لم نمزقها.
ولعلي أسمح لنفسي لزيادة التوضيح باجترار بعض ما سبق أن تناولته، وهو ما أطلق عليه “السنة الجزائرية في فرنسا”، والتي تقرر أن تكون في 2013، وذلك باتفاق بين أطراف فرنسية ورئاسة الجمهورية، بعلم الرئيس عبد العزيز بو تفليقة أو بتعليماته، ولم أكن أعرف شيئا عن السنة ولا عن برامجها وأهدافها أكثر من أنه أنشئت محافظة سامية لتنظيمها كان على رأسها، بقرار رئاسي، عقيد طيار سابق هو الأخ حسين سنوسي، الذي كنت عرفته في القاهرة، في نهاية الخمسينيات، عندما كنت مكلفا بالشؤون الصحية والثقافية للطلبة العسكريين.
ثم وقع بين يدي تقرير عن السنة موجه إلى السيد هيوبير فيدرين (Hubert VEDRINE) وزير الخارجية الفرنسي، أعده السيد هرفي بورج (Hervé BOURGES ) ممثل الطرف الفرنسي في اللجنة المُكلفة بتنظيم التظاهرة، أسرعت بإرساله إلى الرئاسة ، ولم أسمع عنه لا خيرا ولا شرا، ولا حتى مجرد تساؤل عن صدقية التقرير، الذي تناول بوضوح أهمية إقامة السنة كما تراها المراجع الفرنسية، والتي لم تكن كما يتطلبه المنطق الوطني الجزائري كما أفهمه كوزير للثقافة.
وقد تصورت للحظات بأن الوثيقة قد تكون مفتعلة رغم أنها منسجمة مع ما نعرفه من المواقف الفرنسية، فنشرتها في كتابي “وزيرا..عام 2015، ولم يصلني تكذيب أو تصحيح أو تفنيد، ومن هنا اعتبرتها وثيقة صحيحة وأعدت نشرها.
وعندما نعرف من هو “بورج” الذي اختير لرئاسة الجانب الفرنسي يمكن أن نتصور مدى القلق الذي أخذ يصيبني نتيجة لهذا الأمر الذي يمس الجانب الثقافي أساسا، وبغض النظر عمّا إذا كنت سأظل في الوزارة إلى 2003 أو أنني سأغادر موقعي غدا.
ويوصي التقرير، حرفيّا، بضرورة “تفادي الحساسيات من الجانبين”، والتركيز على المستقبل وعدم البقاء في “أسْر الماضي”، ثم يشير إلى أهمية هذا اللقاء بالنسبة للسكان (population) من أصل جزائري، المستعدين للاندماج (prête à s’intégrer) ويشير بعد ذلك إلى الوضعية الخاصة التي تعيشها الجزائر بعد خروجها من مرحلة العنف الإسلامي، وهو ما يستوجب الحذر في التعامل معه (هكذا).
ويقول التقرير بوضوح إنه، بالنسبة لفرنسا يجب أن تتم تحت شعار إدماج المُكوّن الجزائري:
Pour la France, cette année doit être vécu sous le signe de l’intégration de la composante algérienne de sa mémoire, de sa culture, de son identité
أما بالنسبة للجزائر فيجب أن تعاش كاستعادة للتوفيق مع الجانب الفرنسي من شخصيته:
Pour l’Algérie, elle (l’année) doit être vécue comme la réappropriation d’une composante historiquement et culturellement francophone de son identité
ثم يقول بأن التظاهرة يجب أن تكتسي طابعا شعبيا يشمل الجيل الأول والثاني بل والثالث من الهجرة، وسواء كانوا فرنسيين أو جزائريين أو أقدام سوداء (pieds noirs فرنسيي الجزائر) أو حركى (من جندتهم فرنسا من الجزائريين ضد الثورة) أو “بور” (Beurs فرنسيون ذوو أصول جزائرية)
ويجب أن تكون السنة فرصة للقاء ولتحقيق مبادرات في مجال التعاون الدائم، ويؤكد أهمية السنة في إعادة اكتشاف الثقافة الجزائرية، من كاتب ياسين إلى سانت أوغستان، ومن زيدان ( لاعب الكرة) للأخضر حامينا (الجزائري الذي حصل على السعفة الذهبية في “كان” على فيلم أثار غضب الرئيس هواري بو مدين) ومن فوضيل (مغني الرايْ) إلى موسيقيّي “الرابْ” في شمال مرسيليا.
وكان هذا من بين النقاط التي أثارت انتباهي، حيث لم يكن من بين من طرح بورج أسماءهم من رجال الفكر والقلم الشيخ عبد الحميد بن باديس أو البشير الإبراهيمي أو مبارك الميلي أو أحمد توفيق المدني أو عبد الحميد مهري أو حتى الكتاب بالفرنسية مثل محمد ديب أو مولود فرعون أو مالك بنابي أو مالك حداد، أو من مزدوجي الثقافة مثل أحمد طالب الإبراهيمي وعبد المجيد مزيان، بالإضافة إلى الجيل الحالي من المعربين مثل زهور ونيسي وبلقاسم سعد الله وأبو العيد دودو وعبد الله ركيبي وطاهر وطار وبلقاسم خمار و صالح الخرفي وعمر البرناوي وعثمان سعدي وأحمد بن نعمان والتركي رابح وجمال قنان والعربي الزبيري والعربي دحو وكثيرون آخرون، أي بصفة عامة، لم يكن هناك من يمكن اعتبارهم من حملة الثقافة العربية الإسلامية وممثلي الأصالة الوطنية، ولم يكن هذا مما يمكن أن يخفى على بو تفليقة.
وكان الأخطر من ذلك أن التقرير ركز على أهمية التظاهرة في تحقيق “إدماج” الجالية الجزائرية الموجودة في فرنسا، ويرى أنه، بالنسبة للطرف الجزائري، فإنه يجب العمل على إعادة التوفيق (Réappropriation) مع الثقافة الفرنسية في الشمال الإفريقي، والتي تساهم في حساسيته وفي تاريخه ومصادر شخصيته الهجينة (son identité hybride)
وبعد أن يركز على ما يُسمّيه الحقيقة التعددية في الجزائر (فكريا وثقافيا بالطبع) يختتم بأن الهدف النهائي هو السماح للواقع الجزائري في فرنسا أن يعبر عن نفسه (وهذا الواقع الجزائري كما سبق يضم الفرنسيين والأقدام السوداء وأبناء الأجيال المتتالية من الجزائريين والحرْكَى والبور Beurs وغيرهم) ويسمح أيضا للواقع الفرانكفوني في الجزائر أن يعبر عن نفسه على قدم المساواة، ليمكن إقامة جسور جديدة عبر المتوسط. (انتهى التقرير).
واستقبلت حسين سنوسي لكننا لم نتفق لأنني تمسكتُ بأن الاطلاع على كل ما هو ثقافي هو في صلب مهمتي، لكنه غضب وقال إن هذا تحدٍّ لقرار الرئيس بمنحه السلطات كاملة، وفي اليوم التالي نُشر خبر المقابلة في صحيفة ناطقة بالفرنسية، وكان مضمون ما نشر أن وزير الثقافة أصرّ على فرض مفهومه لبرامج السنة الجزائرية في فرنسا، وهو (أنا) يُدمّر كل ما لا يستجيب لإيديولوجيته (هكذا).
وكان من الممكن أن تكون السنة الجزائرية في فرنسا، والتي لم تتكرر فيما بعد، إنجازا كبيرا يُحسب للرئيس عبد العزيز بو تفليقة، هذا إذا كانت سنة جزائرية فعلا، تقدم للفرنسيين صورة ثقافية للجزائر التاريخية، لكنها كشفت الخلفية الفرنسية في التعامل مع الجزائر.
ولم تكن الفرانكوفونية بمعناها الفرانكوفيلي بعيدة عن الأمر، لهذا لم أعمّر طويلا في الوزارة.
تعليقات الزوار
لا تعليقات