بعد أكثر من عامٍ على إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيِّد بحلِّ الحكومة وتجميد عمل البرلمان؛ والتي عُدت «انقلابًا دستوريًّا»، وبعد أكثر من عقدٍ كامل على اندلاع الثورة التونسية؛ والتي كانت الأوضاع الاقتصادية المتردية في قلب أسباب انفجارها؛ بعد كل ذلك ما زال الاقتصاد التونسي يعاني من أوضاعٍ سيئة، بل هو في وضعٍ أسوأ بكثير مما كان عليه قبل الثورة.
قد يكون الاقتصاد التونسي اليوم على حافَّةٍ خطرة، فبعد الانهيار الاقتصادي في لبنان وسيريلانكا تُصنَّف تونس اليوم واحدةً من أكثر الدول مواجهة لخطر التعثُّر؛ وهي في المرتبة الثالثة بعد السلفادور وغانا، وفق تقديرات وكالة «بلومبرج» الأكثر تفاؤلًا من غيرها، فما الذي يعنيه ذلك؟
لا أحد يرغب بالتعثُّر!
قد يظن البعض – نتيجة للموقف السلبي تجاه الديون وصندوق النقد والبنك الدولي وعموم المنظومة المالية والنقدية العالمية – أنَّ إحدى هذه الجهات، أو حتى جميعها ترغب برؤية دول العالم الثالث مُتعثِّرةً عن سداد ديونها، أو في وضعٍ اقتصاديٍّ سيِّئ بالمجمل.
لكنَّ هذا التصور خاطئ جزئيًّا؛ فالاقتصاد المصري -مثلًا- يدر اليوم دخلًا على مستثمرين أجانب، عن طريق تسديده ديونه الخارجية وفوائدها الطائلة، ومصلحة هؤلاء المستثمرين بالطبع ومعهم المؤسسات الدولية هو أن يستمر الاقتصاد المصري بأخذ ديون جديدة، ولكن: أن يستمر أيضًا في القدرة على سدادها. قد ترغب هذه الأطراف أو بعضها بوضعٍ اقتصاديٍّ مُتردٍّ لكنه «مستقر وتحت السيطرة»؛ بحيث لا يتعثر الاقتصاد وتتخلف مصر عن السداد، فتتوقَّف بذلك عجلة الاقتصاد وعجلة انتفاعهم.
كما أنَّ هذا ليس السبب الوحيد الذي قد يجعل هذه الأطراف كارهةً لتعثُّر دول مثل مصر وتونس، بل هناك أسباب سياسية إستراتيجية أيضًا، مثل الأمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمسائل المتعلقة بتسارع تدفق اللاجئين نحو أوروبا وغيرها من الأمور؛ فانهيار الاقتصاد في هذه البلدان سيعني على الأقل صداعًا لغيرها في العالم، ومعه خسارة المستثمرين أموالهم.
وطبعًا فإنه لا أحد داخل تونس يرغب بالتعثر أيضًا؛ فلا الحكومة ولا البنوك والنخب الاقتصادية ولا التونسيون ولا أي شعب في العالم يرغب بالوصول إلى مثل هذا المصير؛ ولكن هل يعني كون تونس ضمن الدول الأكثر احتمالًا للتعثر أنَّ التعثُّر محتمل جدًّا؟ هل يعني ذلك أن تونس على بعد خطوة من سيناريو سيريلانكا ولبنان؟ لا، ليس بالضرورة.
ليس هناك طريقة واحدة لمعرفة النقطة التي لا يعود بعدها ممكنًا لاقتصادٍ ما أن يستمرَّ ضمن وضعه الطبيعي؛ فالاقتصاد اللبناني -مثلًا- بدأ مسار الهبوط عام 2019 بدينٍ يقارب 180% من الناتج المحلِّي الإجمالي، ولكن الاقتصاد التونسي اليوم لا تتجاوز فيه هذه النسبة 90%.
ولكن هذه النسبة ليست كل شيء؛ فسيريلانكا متعثرة اليوم وفي أزمةٍ اقتصاديةٍ خطيرة جدًّا، بل قد تكون حتى تجاوزت الوضع الاقتصادي الكارثي في لبنان، مع ذلك فإن نسبة دينها إلى ناتجها المحلي الإجمالي لا يصل إلى ما هو مقارب للنسبة في لبنان أو تونس أو مصر، كل ذلك وسيريلانكا دولةٌ متعثرة بالفعل.
لذلك فإن هذه النسب تساعدنا في فهم المسألة أكثر، لكنها لا تعطي مؤشرًا نهائيًّا على واقع الأمر في أي بلدٍ من هذه البلدان، فكون تونس من أكثر البلدان التي قد تواجه خطر التعثر لا يعني أن البلاد مُتَّجِهةٌ حتمًا نحو التعثر، وخصوصًا إذا ما أُلقِيَ لحكومتها طوق نجاة من الخارج.
إذن؛ فما حال الاقتصاد التونسي اليوم، وهل هو متجه نحو التعثر؟ هناك طريقان للإجابة عن هذا السؤال؛ الأول: هو النظر في حال الاقتصاد نفسه: ما يمر به من تحديات، وما لديه من قدرات لعبور الأزمة، وهل هي موجودة أصلًا؟ والثاني: هو الدعم الخارجي في شكل منح مالية من داعمي الحكومة التونسية والرئيس قيس سعيد، أو القروض من المؤسسات الدولية.
معضلة السياسة مقابل الاقتصاد
يمكن القول إنَّ السؤال الأول في تونس – وغيرها من الدول العربية- هو سؤال سياسي أكثر منه اقتصادي، على الأقل في المدى القصير، ولطالما كان بإمكان الحكومات المختلفة المناورة في الداخل والخارج سياسيًّا لتحقيق مكاسب اقتصادية.
على عكس الحالة اللبنانية؛ فإن مؤشرًا آخر غير «نسبة الدين للناتج المحلي» هو ما قد يشكل الخطر الأكبر على الاقتصاد واستدامة الدين في تونس؛ وهو أن عجز الموازنة التونسي يصل إلى قرابة 10% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضخمة بالفعل، فالنسبة نفسها في مصر مثلًا قرابة 6% فقط في العام المالي 2021-2022، وبانخفاضٍ عن العام السابق.
فكما أن المشكلة في سيريلانكا كانت استنزاف الاحتياطات الأجنبية اللازمة للدفع؛ فإن المشكلة في تونس هي في العبء الضخم جدًّا على الميزانية الحكومية في مختلف النفقات. لكنَّ هذا العبء ليس مسألةً تقنية اقتصادية يمكن حلها بسهولة، بل هي مسألة سياسية في صلبها؛ خصوصًا في ظل الخطوات السياسية الأخيرة.
لطالما عمل القطاع العام في تونس بصفته مصرفًا للمشكلات الاقتصادية في البلاد؛ ففي مواجهة التحديات الاقتصادية أمام المجتمع التونسي كانت الدولة تؤجل المشكلات عن طريق تضخيم القطاع العام برفع التوظيف فيه، ومعه زيادة الإنفاق على برامج الدعم الاجتماعي ودعم السلع المختلفة.
عمدت بعض الدول العربية إلى فعل ذلك سابقًا؛ بحيث تصبح الدولة أداةً لتوزيع «الريع» في المجتمع، ضمن عقدٍ اجتماعيٍّ ما يضمن عدم تدهور الحالة الاقتصادية للمواطنين، مقابل رضاهم بعدم الانخراط في العملية السياسية، أو تقديم الولاء للنظام الحاكم دون الدخول في مناكفاتٍ معه.
لكنَّ هذه السياسة أثبتت عدم نجاحها خصوصًا على المدى البعيد، وما تزال تثبت ذلك في كل مكان؛ بغض النظر عن الآلية التي تحاول الأنظمة الحصول فيها على ما يكفي لرفع إنفاقها، سواءً كان الريع غير المباشر للنفط عن طريق تحويلات مواطنيها العاملين في دول الخليج، أو عن طريق عوائد استخراج موارد طبيعية داخل البلد نفسه، أو حتى بيع مُقدَّرات البلاد (الخصخصة)، والدين وغيره من الآليات.
وبعد استنزاف هذه الدول طاقة قطاعها العام بسبب الاستمرار على النمط نفسه، مع استمرار حاجة الدولة للاستدانة من الخارج؛ تبدأ المؤسسات الدولية باشتراط تخفيض النفقات العامة، من جملة شروطٍ أخرى، وهو الوجه الآخر للمعادلة، وهو سياسي أيضًا ولا علاقة له بحسابات الاقتصاد البحت أمرًا منفردًا؛ فالتقشُّف الذي يحاول صندوق النقد فرضه في الأعمِّ الأغلب مُنَاقِض لمنطق الاقتصاد وأساسياته كما يقول جوزيف ستيجلتز، حائز جائزة نوبل في الاقتصاد.
لكنَّ معضلة الرئيس التونسي الحالية تتعدَّى ما يمكن أن يواجه أي نظام آخر في حال رغبة المساس بقوت المواطنين وتخفيض رواتبهم أو عدد الموظفين، أو تخفيض الدعم الاجتماعي أو إلغائه حتى؛ فالنظام التونسي لم يستقر بعد، وهو ما يزال يمر باختباراتٍ مُهمَّة لشرعيته، قد لا يكون أهمُّها ما تشكله حركة النهضة وغيرها من الأحزاب السياسية المعارضة؛ بل ما قد تشكله بعض الأطراف التي لم تعارض قرارات الرئيس التونسي وإن لم تؤيدها علنًا؛ مثل الاتحاد العام للشغل.
الشرعية السياسية؟ أم قبول شروط الصندوق؟
تكمن المعضلة بين السياسة والاقتصاد اليوم في تونس، في أن النظام يحتاج لإرضاء المواطنين التونسيين وإخراجهم من ضائقتهم الحالية، ولكنه ليفعل ذلك يحتاج إلى المال، وهذا المال غير متوافر حاليًا في الداخل، والخارج غير مستعد لإعطاء تونس هذا المال دون شروطٍ تقشفية ستقلل الإنفاق الحكومي الحالي.
لكن، وكما في بلدانٍ عربية أخرى، تحتاج معارضة المواطنين العادية إلى شكلٍ من أشكال التنظيم لتصبح فعَّالة، وبينما تفتقد دول عربية أخرى لمثل هذا الشكل، يقدم الاتحاد العام للشغل في تونس حلًّا لهذه المشكلة للجماهير التونسية؛ فالاتحاد استطاع سابقًا تنظيم إضراباتٍ ناجحة، بل استطاع إجبار الحكومة على تنفيذ مطالب اقتصادية تتعلق بالأجور وحقوق العمال.
نفذ الاتحاد التونسي للشغل إضرابًا في يونيو 2022
وقد نفذ الاتحاد التونسي سابقًا الإضراب بالفعل في يونيو (حزيران) الماضي؛ والاتحاد يلوح بإضرابٍ عام آخر ممكن، يستطيع مثل هذا الإضراب شلَّ الاقتصاد التونسي لمدةٍ تحددها قيادة الاتحاد العام للشغل، ومثل هذه الإضرابات والتحركات بالإضافة إلى غيرها من تحركات المعارضة قد تفتك بشرعية تحركات الرئيس التونسي السياسية في الداخل والخارج.
فإذا لم يكن هناك حل للاقتصاد التونسي إلا عن طريق الخارج، كما تقول وكالات التصنيف الائتماني، وكان الخارج يطلب من الحكومة التونسية تقليل النفقات والبدء ببرامج التقشف وتقليص برامج الدعم الاجتماعي – كما هي عادة الصندوق – فعلى الحكومة البدء بذلك. ولكنها على الأرض تتفاوض مع فئات المجتمع بما يوحي بعكس هذا التوجُّه، فقد بدأت الحكومة مفاوضات مع الاتحاد العام.
يحصل ذلك بعد شهر من استئناف مفاوضات الصندوق مع الحكومة التونسية، وهذه التحركات المتناقضة في فحواها تسير وسط استبشار بنجاعة الطريقين، ورغم تناقضهما فهما مهمان لبعضهما البعض، فالاتحاد العام للشغل يرفض التقشف بلا شك، ولكن وقوفه في صف الحكومة يعني استقرارًا سياسيًّا، والصندوق في المقابل يرغب بتوفير مناخ الاستقرار الممكن عن طريق الاتحاد، ولكنه لا يرى التقدم ممكنًا مع الحكومة التونسية -أو غيرها- دون تقشف وتقليل للنفقات.
فليس السؤال الوحيد هو أي الخيارات سيفضلها الرئيس التونسي؛ بل أيضًا أي الخيارات ستكون متاحة أمامه، وكيف يمكنه التوفيق بين كل هذه المتناقضات؟
«مفاتيح» صندوق النقد
يحتاج صندوق النقد إلى جهةٍ سياسيةٍ بالطبع للتفاوض معها في تونس. لكنَّه يحتاج كذلك أن تتصف هذه الجهة بحدٍّ أدنى من الشرعية السياسية. لكن علينا هنا أن نوضِّح أنه ليس هناك معيار واضح لقياس هذه «الشرعية» وتحديدها. وبالأحرى تحتاج تونس لتوفير استقرار سياسي وحدٍّ أدنى من التوافق على الجهة أو الرئيس الذي يحكم البلاد ويفاوض الخارج.
بالنسبة لهذه الناحية فيبدو أن الحكم في تونس قد وفَّر الحد الأدنى المطلوب للإبقاء على الدعم الدولي له؛ بما يسمح بالحصول على دعم الصندوق وأخذ قرض منه؛ يفتح ذلك أبواب غيره من القروض الخارجية من مقرضين تجاريين ينتظرون موقف الصندوق، ووكالة «Fitch» للتصنيف الائتماني ترى أن تونس ستحصل على القرض في النصف الثاني من العام الحالي بالفعل بسبب بقاء هذا الدعم.
والمفتاح الآخر في أغلب حالات قروض الصندوق هو «سياسة التقشف» وتقليل النفقات الحكومية، وهو ما قد يعيد البلاد إلى المربع الأول في حال مطالبة الصندوق به وتلبية الحكومة التونسية لذلك؛ فقد يعني ذلك إضرابًا عامًّا من قبل الاتحاد العام للشغل، وربما اندلاع احتجاجات مطلبية من قبل المواطنين أوسع من دعوات الاتحاد، وكل ذلك قد يعني انهيار الثقة بالنظام السياسي وانعدام الاستقرار من جديد.
في حال حصول هذا السيناريو قد تفقد تونس الدعم الدولي الذي تحتاجه لتأمين القروض الخارجية، ما يعني بقاء المشكلات الاقتصادية على ما هي عليه؛ ومن ثم تفاقم الأزمة الاقتصادية، والتي ستؤدي بدورها لإمكانية تفاقم الاحتجاجات وانعدام الاستقرار السياسي؛ وهكذا دواليك إلى أن تنكسر الدوامة بحلٍّ ما أو بانهيار على شكل الانهيار اللبناني أو السيريلانكي.
محمد لطفي
تعليقات الزوار
لا تعليقات