يبدو للوهلة الأولى أن الجواب المنطقي الوحيد لهذا التساؤل الغريب هو الاختيار الواقعي العقلاني للطرف الثاني من العنوان، أي مواصلة الاستيراد من هذين البلدين العملاقين في القمح..
ذلك أن مطمورة روما سابقا لا يمكنها حاليا، مهما فعلت، إعادة مجدها الغذائي كمزود لأوروبا بهذه السلعة الاستراتيجية الحيوية المهمة جدا..
إن التحليل التقني للقدرات الجزائرية الحالية في الإنتاج والتخزين والتوزيع تضعها أمام التواضع الحتمي كزبون مستديم للأقوياء عالميا..
رغم كل ما سبق، يمكن بل يجب على خبراء المخابر الجزائرية طرح هذا الاحتمال، ولو نظريا، على المدى البعيد خلال عشرين سنة أو أكثر..
الهدف الواقعي الأول يجب أن يكون الاكتفاء الذاتي الغذائي.. ليس بشعارات الثورة الزراعية والعواطف الفلاحية السبعينية بل بخطط منهجية واقعية، ذات رزنامة زمنية محددة بدقة..
أما التصدير، فسيأتي لاحقا عندما تتمكن الجزائر من إشباع شعبها أولا..
الأحلام الكبيرة تبدأ بخطوة واحدة جدية.. وتنتهي طبعا بالإنجاز الميداني..
صحيح أن سيناريو النجاح قد يجلب المتاعب للجزائر، كما حدث مع سوريا التي حققت اكتفاءها الذاتي الغذائي، فعوقبت بالتدمير والتمرد الداخلي وعشر سنوات كاملة من الحرب الأهلية.. شاركت فيها جيوش عشر دول..
ممنوع أي اكتفاء ذاتي غذائي عربي: فيتو غربي خفي ضد أي طموح ولو كان صغيرا أو عابرا..
السودان، سلة غذاء إفريقيا والعرب، تتسول بعد تمزيقها وتشتيت نخبها السياسية والعسكرية، خاصة إثر استنجادها بالصين وماليزيا.. لم يشفع للسودان المسكين محاولات إرضاء أمريكا بتأجير بعض المساحات الزراعية لدول حليفة لها كقطر وتركيا..
غزو روسيا لأوكرانيا يفرض على زبائن هاتين الدولتين التفكير جديا في بدائل قمح مناسبة، خاصة إذا طالت الحرب..
تحتل الجزائر حاليا للأسف الشديد المرتبة الثانية إفريقيا بعد مصر في استيراد القمح..
تكاليف الشحن البحري باهظة الثمن ستحول حتما دون التوجه غربا نحو صادرات أمريكية وكندية، تتلهف شوقا لسوق جزائرية واسعة وواعدة..
لقد أرجع بعض خبراء القمح في العالم استدراج الغرب وأمريكا هذين البلدين الجارين لهذه الحرب العبثية إلى رغبة خفية لزحزحتهما معا من سوق القمح..
ليس صحيحا أن الحرب الحالية لن تؤثر على الجزائر..
ستذهب جهود الجزائر لتنويع صادراتها من القمح أدراج الرياح، بعد اجتياح روسيا لجارتها أوكرانيا، إذ تحتل الأولى صدارة الدول المصدرة للذهب الأصفر، بينما تحتل الثانية المرتبة الخامسة عالميا..
بدأت هيمنة القمح الفرنسي على صادرات الجزائر تتراجع بعد دخول الصادرات الروسية للسوق المحلية، لكن الحرب الحالية قد تعيد الجزائر لبيت الطاعة الفرنسي، على الأقل فيما يتعلق بالقمح..
كانت فرنسا أكبر مستورد للقمح الجزائري في العهد العثماني، إذ يعود الاحتلال إلى عدم دفعها لديونها..
لكن الأمور انقلبت رأسا على عقب بعد 200 سنة، إذ هيمنت فرنسا على قوت الجزائريين الأول لسنوات طويلة.. حتى جاء حراك 22 فيفري المبارك، فتراجعت تلك الهيمنة تدريجيا، ليس فقط بسبب تنويع مصادر الاستيراد نحو روسيا وأوكرانيا، بل أيضا لنجاح الجزائر في تحقيق 70 % من احتياجاتها الغذائية محليا، إذ وفر محصول القمح الصلد والشعير الجزائري معظم احتياجات البلاد في السنوات الأخيرة، بينما كان الاعتماد على الاستيراد في القمح اللين، والذي جاء معظمه من فرنسا..
كما أن التركيز في استراتيجية 2024 على الاستثمار في الصحراء، خاصة في مجال الزراعات الصناعية الاستراتيجية، التي تؤثر كثيرا على ميزان المدفوعات. بلغت قيمة الإنتاج الزراعي الجزائري 29.1 مليار دولار خلال العام 2019، بحسب تقرير صادر عن مركز الإحصائيات الزراعية التابع لوزارة الزراعة الجزائرية..
هناك 150 ملف استثمار في الزراعات الاستراتيجية كالقمح لدى ديوان تطوير الزراعات الصناعية في الأراضي الصحراوية..
لم يكن الجفاف السبب الوحيد لهبوط محصول الحبوب الجزائري 35-40% سنة 2021 عن مستوى 2020 البالغ 5 ملايين طن، بل أيضا
لنقص المياه وتقلّص المساحات المروية، إضافة لهاجس الأسعار والقيود المفروضة على تنقلات الأفراد بسبب الجائحة..
انخفاض الإنتاج سيلجئ الحكومة إلى الأسواق الخارجية لإطعام السكان البالغ عددهم 45 مليون نسمة..
تنفق الجزائر حوالي 1.3 مليار دولار سنويا على واردات الحبوب، وتدعم القمح الذي تعتبره محصولا استراتيجيا..
من أصل 1.4 مليون هكتار مروية، لا تزيد المساحة المزروعة بالحبوب على حوالي 600 ألف هكتار..
خــــتـامــا..
لا بد من رؤية مستقبلية استراتيجية جادة.. تضع صناع القرار الغذائي الجزائري أمام خارطة طريق عملية واضحة المعالم والإجراءات.. الخبراء الجزائريون قادرون على رسم ذلك شرط الجدية والاهتمام الحكومي الرسمي الحقيقي بهم..
د. جمال سالمي
تعليقات الزوار
لا تعليقات