اقتحمت قوات الشرطة الأمريكية حرم جامعة كولومبيا في نيويورك وفضوا تجمعات الطلاب وأزالوا خيمهم بالقوة، يوم الثلاثاء، واعتقلوا مئات الطلاب المحتجين على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ سبعة أشهر.
هذه أحدث وقائع المعركة التي تخوضها الحكومات الغربية، منذ السابع من تشرين الأول، في مواجهة الاحتجاجات السلمية المتصاعدة في مختلف المدن الأمريكية والأوروبية تضامناً مع الشعب الفلسطيني، بالتوازي مع قمع أي بوادر تعبير عن الرأي في وسائل الإعلام المجيّرة بالكامل لدعم ما تسميه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» ولوصم أي انتقاد للفظاعات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين بـ«معاداة السامية».
بل إن محاولات قمع الاحتجاجات الطلابية لم تقتصر على هؤلاء، بل تجاوزتهم لتطال رؤساء جامعات مرموقة في الولايات المتحدة لأنهم لم يمنعوا تلك الاحتجاجات! فقد أرغمت رئيسات جامعات بنسلفانيا وهارفارد وماساشوستس على الاستقالة بعد جلسات استماع في الكونغرس، وبعد تعرض إدارات تلك الجامعات لتهديدات بسحب التبرعات المقدمة إليها من أثرياء مؤيدين لإسرائيل. وكانت الذرائع المقدمة لتبرير الضغوط على رؤساء الجامعات هو أن الطلاب المحتجين أطلقوا شعارات أو وزعوا منشورات تنطوي على «معاداة السامية» أو «تحرّض على إبادة اليهود»! ولم يشفع للمتهمين أن بين المحتجين يهوداً يتبرؤون من وحشية إسرائيل.
وبات اعتقال المشاركين في المظاهرات الاحتجاجية في مختلف المدن الأمريكية والأوروبية واستخدام القوة لفض المظاهرات والتجمعات حدثاً يومياً مألوفاً، على رغم أن تهمة الإبادة التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين لم تعد كلاماً مرسلاً بل تتمتع بأساس قانوني وينظر فيها أمام محكمة الجنايات الدولية، بل هناك توقعات عن قرب إصدارها مذكرات توقيف بحق نتنياهو وقادة سياسيين وعسكريين في إسرائيل.
قد لا يكون غريباً استخدام مفهوم معاداة السامية لقمع أي صوت معارض لإسرائيل في الدول الغربية، فقد تعرض كثير من المفكرين وصناع الرأي لمحاكمات بهذه التهمة في العقود الماضية، لكن الغريب هو هذا الاستسهال في استخدامها اليوم لقمع أي رأي مخالف للتوجهات الرسمية لتلك الحكومات في الوقت الذي لا يمكن لأحد إنكار فظاعات الجيش الإسرائيلي المرتكبة الآن على مرأى ومسمع العالم، ولم توفر حتى عمال إغاثة أجانب وطوابير الفلسطينيين الذين يتجمعون لاستلام المساعدات الغذائية الدولية.
ربما في الأيام الأولى التي أعقبت «طوفان الأقصى» كان بوسع الحكومات الغربية أن تسوّغ دعمها السياسي والعسكري والمالي والإعلامي المطلق لحرب إسرائيل في ظل الصدمة التي أصابت الرأي العام بفعل عملية حماس والعدد الكبير من القتلى والأسرى في صفوف العسكريين والمستوطنين الإسرائيليين، من خلال صنع صورة شيطانية عن حماس للتغطية على الرد الإسرائيلي الوحشي، باعتبار أن إسرائيل تعرضت لاعتداء «إرهابي» تم تشبيهه في وسائل الإعلام بهجمات الحادي عشر من أيلول 2001. لكن الأمور سرعان ما تغيرت بوضوح أمام الرأي العام الذي بات يرى فيما تقترفه ضد الفلسطينيين حرب إبادة كاملة الأركان. كما أظهرت القيادة الإسرائيلية أنها لا تحفل كثيراً بحياة أسراها لدى حماس الذين قتل عدد منهم بفعل القصف الإسرائيلي، وذلك من خلال رفضها العرض الذي قدمته الحركة لمبادلتهم بآلاف الأسرى الفلسطينيين مع شرط وقف إطلاق النار.
وهكذا كان من الطبيعي أن تظهر ردود الفعل الاحتجاجية على الحرب كما على الدعم المطلق الذي تقدمه الحكومات الغربية لإسرائيل لتتمكن من مواصلة حربها الإبادية.
الغريب هو استمرار التضييق الغربي على حرية التعبير حين يتعلق بالتضامن مع الفلسطينيين وإدانة حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل ضدهم، على رغم أن الإجراءات القمعية لم تمنع استمرار الاحتجاجات وتصاعدها المطرد على إيقاع المجازر اليومية في صفوف المدنيين الفلسطينيين في غزة والضفة والغربية وارتفاع أعداد القتلى بصورة مهولة، إضافة إلى التهديد اليومي باجتياح آخر معقل للنازحين في مدينة رفح. فرواية «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» التي ربما كانت مقبولة نسبياً لدى الرأي العام الغربي، تآكلت بمرور الوقت وانقلبت الأدوار بين القاتل والضحية، لكن الإجراءات القمعية لم تتوقف بعناد يصعب فهمه. صحيح أن الإدارة الأمريكية غيرت لهجتها نسبياً تجاه إسرائيل في الأشهر الأخيرة، لكن الدعم المادي والعسكري استمر في تصاعده، على رغم أن المؤشرات باتت تتحدث عن احتمال خسارة بايدن في الانتخابات الرئاسية القادمة بسبب هذه السياسة المتطرفة في دعم إسرائيل.
ليس ثمة تعارض بين الدعم المطلق لإسرائيل وعدم التعرض لمظاهر الاحتجاج ضد الحرب وضد هذا الدعم. من المفترض أن تلك الدول الديمقراطية يتسع صدرها لمختلف وجهات النظر بما في ذلك تلك المتعارضة مع السياسة الرسمية. ليس هناك تفسير مقنع يبرر تخلي تلك الحكومات عن قيمها الديمقراطية، وما يترتب على ذلك من زيادة التطرف ليس فقط في البلدان ذات الحساسية العالية تجاه القضية الفلسطينية، بل كذلك في البلدان الغربية نفسها. كيف يمكن للساسة الغربيين بعد اليوم أن ينتقدوا الدول المحكومة بأنظمة استبدادية أو يفرضوا عليهم العقوبات بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تنتهك بنفسها حرية التعبير في بلدانها؟
الخلاصة أن إسرائيل التي تجاوزت كل الحدود في انتهاك القوانين والمعايير الدولية للحروب تمكنت من جر بلدان ديمقراطية إلى هذا الدرك الأسفل.
هذه المقالة غير موجهة لأولئك الذين لا يفاجئهم شيء ويعرفون منذ العصور السحيقة أن الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يرفع الغرب شعاراتها إنما هي كذبة، وأن الحل الوحيد هو الحرب العدمية على كل شيء.
بكرصدقي
تعليقات الزوار
لا تعليقات