في مشهد يعكس ازدواجية صارخة في السياسة الأمريكية، صعّدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال الأشهر الماضية عملياتها البحرية ضد دول لا تخوض حربًا مع الولايات المتحدة، عبر مصادرة ناقلات نفط، وتدمير قوارب مدنية، والتهديد بفرض حصار بحري، في وقت تدين فيه واشنطن خطوات مماثلة نفذتها جماعة الحوثي في البحر الأحمر بذريعة «مكافحة الإرهاب» وحماية الأمن القومي.
واعترضت الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة عدة ناقلات نفط فنزويلية، في إطار تصعيدها المتواصل ضد كاراكاس، كما دمّرت عشرات القوارب الصغيرة في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ تحت شعار «مكافحة المخدرات»، ما أدى إلى مقتل أكثر من 100 شخص، في عمليات حجبت واشنطن خلالها هويات الضحايا. ويأتي ذلك في وقت هدّدت فيه إدارة ترامب بفرض حصار بحري على فنزويلا، وهي دولة ذات سيادة لا تخوض حربًا مع الولايات المتحدة.
فكيف يمكن لواشنطن أن تزعم امتلاك الحق في مصادرة السفن أو تفجيرها، وتعطيل الملاحة البحرية، وقتل مدنيين في عرض البحر—في الوقت الذي تقصف فيه اليمن وتدين حكومة الحوثيين لاعتراضها سفنًا في البحر الأحمر، بحجة مواجهة إبادة إسرائيل في قطاع غزة؟

يكشف هذا التناقض الصارخ ازدواجية فاضحة في السياسة الأمريكية. وفي هذا السياق، تشير الكاتبة الأمريكية ميديا بنجامين والكاتب الأمريكي نيكولاس جي. إس. ديفيز، في تحليل نُشر في العديد من المنصات التقدمية الأمريكية، من بينها «كومن دريمز»، إلى أن واشنطن تطبّق معايير متناقضة في تعاملها مع حرية الملاحة واستخدام القوة في البحار.
فقد وصفت الحكومة الأمريكية إجراءات الحوثيين بأنها «إرهاب» وقرصنة وتهديد للأمن القومي الأمريكي، في حين قدّمت حكومة الحوثيين مبررات قانونية معقولة تستند إلى قوانين الحرب. في المقابل، سعت واشنطن إلى تطبيع —بل وتمجيد— هجماتها على ناقلات النفط وعبّارات النقل المائي وقوارب الصيد، رغم أنها تنتهك أبسط مبادئ القانون الدولي.
ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أطلقت حركة أنصار الله (الحوثيون) حملة بحرية في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، ردًا على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وأعلن الحوثيون معاييرهم للاستهداف، مؤكدين أنهم سيضربون فقط السفن المرتبطة بإسرائيل، أو المتجهة إلى موانئها، أو المملوكة لشركات إسرائيلية، أو المرتبطة بدول تقدّم دعمًا ماديًا للحرب الإسرائيلية.
وسارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إدانة هذه الإجراءات بوصفها أعمالًا إجرامية. وكانت هناك بالفعل مبررات لمساءلتها؛ إذ عبّرت منظمات حقوقية عن قلقها من هجمات طالت سفنًا لا تبدو لها صلات واضحة بإسرائيل، ومن سلامة الطواقم المدنية ومعاملتها. وخلال الحملة، استهدف الحوثيون أكثر من 100 سفينة تجارية، وألحقوا أضرارًا بعشرات السفن، وأغرقوا عددًا منها، واستولوا على سفينة واحدة على الأقل، هي «غالاكسي ليدر»، واحتجزوا طاقمها المتعدد الجنسيات لأكثر من عام قبل الإفراج عنهم في سياق مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة.
من جهتهم، كان خبراء القانون واضحين: لا تملك الولايات المتحدة أي ولاية قضائية تتيح لها مصادرة سفن ترفع أعلامًا أجنبية، لتطبيق قوانينها الداخلية أو عقوباتها الأحادية خارج أراضيها، ولا سيما داخل المياه الإقليمية لدول أخرى.
في المقابل، قدّم الحوثيون إجراءاتهم باستمرار على أنها حصار واعتراض بحري في سياق نزاع مسلح، مبرَّر بارتكاب إسرائيل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني. فهذا الإطار القانوني قائم بالفعل. وبموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي العرفي، يحق لأطراف النزاعات المسلحة— بل يقع عليها واجب في حالات الانتهاكات الجسيمة— اعتراض الشحنات التي تقدّم دعمًا ماديًا لطرف يرتكب أذى واسعًا بالمدنيين. وفي حالة الإبادة في غزة، خلصت محكمة العدل الدولية، وأكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى أن على جميع الدول واجب قطع كل أشكال الدعم العسكري والاقتصادي للهجوم الإسرائيلي على القطاع.
غير أن الردّ الأمريكي لم يكن الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها الإبادي—وهو ما كان سيُنهي حملة الحوثيين فورًا— بل شنّ هجوم كاسح على اليمن. فمنذ ديسمبر/ كانون الأول 2023، نظّمت واشنطن عملية «حارس الازدهار»، وهي انتشار بحري متعدد الجنسيات مدعوم بقوة جوية أمريكية واسعة.
وعلى مدار العام التالي، نفّذت الولايات المتحدة وبريطانيا مئات الغارات الجوية على اليمن، استهدفت مواقع رادار ومنصات صواريخ وموانئ والعاصمة صنعاء وبنى تحتية أخرى. وأسفرت هذه الضربات عن مقتل مئات المقاتلين الحوثيين، إلى جانب عشرات المدنيين. وفي إحدى الغارات الأمريكية على ميناء رأس عيسى النفطي، قُتل عشرات المهاجرين الأفارقة بعدما أصابت القنابل الأمريكية مركز احتجاز.
لكن كيف تُقارن عمليات اعتراض الحوثيين بالإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب ضد فنزويلا؟
في 10 ديسمبر/ كانون الأول، تفاخر دونالد ترامب أمام الصحافيين قائلًا: «لقد استولينا للتوّ على ناقلة قبالة سواحل فنزويلا، ناقلة كبيرة جدًا، الأكبر على الإطلاق»، بينما نشرت إدارته مقطع فيديو يظهر فيه جنود من مشاة البحرية الأمريكية يهبطون من مروحيات على ناقلة نفط مدنية. ولم تكن تلك منطقة نزاع، كما أن فنزويلا ليست في حالة حرب مع الولايات المتحدة، ولم يصدر أي تفويض من مجلس الأمن الدولي، ولا وجود لنزاع مسلح أو ادعاء بالدفاع عن النفس.
ومنذ ذلك الحين، جرى اعتراض أو إعادة عدد من الناقلات المرتبطة بفنزويلا، فيما لوّحت الإدارة علنًا بفرض حصار بحري. وفي الوقت نفسه، دمّرت القوات الأمريكية عشرات القوارب الصغيرة في المنطقة بذريعة عمليات مكافحة المخدرات، ما أدى إلى مقتل أكثر من 100 شخص في البحر، من دون اعتقالات أو محاكمات، أو حتى الكشف عن هويات الضحايا. ولم تكن هذه أعمال حرب مشروعة ولا إنفاذًا قانونيًا مشروعًا، بل استخدامًا خارج القانون للقوة المميتة وبصورة موجزة.
وبموجب القانون الدولي، يُعدّ الاستيلاء على سفن تجارية مدنية في المياه الدولية أو فرض حصار بحري خارج إطار نزاع مسلح مُعلن «أعمال عدوان»، وقد يرقى إلى مستوى أعمال حرب. وتدّعي إدارة ترامب أن إجراءاتها مبرَّرة بالعقوبات الأمريكية على فنزويلا، غير أن هذه العقوبات نفسها غير قانونية بموجب القانون الدولي؛ إذ إن مجلس الأمن الدولي وحده يملك سلطة فرض العقوبات وإنفاذها. أما الإجراءات القسرية الأحادية —لا سيما حين تُفرض بالقوة العسكرية— فتنتهك ميثاق الأمم المتحدة.
الفارق هنا لا لبس فيه
فقد أعلن الحوثيون حصارًا بحريًا، وهاجموا السفن التي انتهكته استنادًا إلى تبرير قانوني مستمد من قوانين النزاعات المسلحة، في محاولة لوقف القتل الجماعي للمدنيين في غزة، وتوقفت عملياتهم عندما أُعلن وقف إطلاق النار.
في المقابل، أقدمت الولايات المتحدة، بوصفها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، على مصادرة ناقلات، وتدمير قوارب، وقتل أشخاص في عرض البحر، والتهديد بفرض حصار على دولة لا تخوض حربًا معها، ليس بهدف إنهاء حرب أو إنقاذ سكان مدنيين من إبادة جماعية، بل في سياق مساعٍ غير قانونية لتغيير النظام والسيطرة الأمريكية على أثمن موارد تلك الدولة.
وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أمنًا حقيقيًا في البحار، سواء في الكاريبي أو البحر الأحمر، فعليها أن تتوقف عن فرض عقوبات غير قانونية باستخدام القوة العسكرية، وأن تكفّ عن تمكين الإبادة في فلسطين. فجرائم القتل والعنف التي تمارسها الولايات المتحدة بحق شعوب ودول أخرى لا تصبح قانونية لمجرد أن مسؤولين في البيت الأبيض يتمنّون ذلك، وفقاً للناشطة الأمريكية ميديا بنجامين والكاتب ي نيكولاس جي. إس. ديفيز.

تعليقات الزوار
لا تعليقات