قضيت الأسبوع الأخير من هذه السنة في المسرح الوطني، بمناسبة تنظيم المهرجان الوطني للمسرح المحترف، الذي تنظمه الجزائر بشكل دوري، كل سنة. كنت أضحك على نفسي وأنا ذاهب كل مساء لمشاهدة إحدى المسرحيات المبرمجة، وأنا أقول يبدو أن كل أمورنا قد تبقرطت في الجزائر، حتى المسرح نذهب إليه بهذه الطريقة الغريبة، نشاهد فيها عشر مسرحيات في أسبوع واحد، ثم ينتهي كل شيء، ليسود الفراغ بقية السنة، رغم أن الجو هذه الأيام جميل ودافئ والأمن متوفر في العاصمة، بعد حل إشكال النقل العمومي جزئيا في المساء، حتى لو أن ميترو الجزائر يتوقف نشاطه الساعة التاسعة مساء! في هذه المدينة المتوسطية الجميلة، التي تغلق أبوابها عند غروب الشمس كقاعدة عامة.
مسرحيات خرجت العائلات للاستمتاع بمشاهدتها بمستوى حضور معقول- الحضور النسوي ما زال ضعيفا وليس في مقام مدينة كبيرة مثل العاصمة – رغم أن النشاط المسرحي في الجزائر لم يخلق جمهورا خاصا به، نتيجة هذا الانقطاع الذي تكلمت عنه. جراء التسيير البيروقراطي الذي ما زال حاضرا للشأن الثقافي في البلد، الذي تحولت المسارح الجهوية فيه إلى مجال للتوظيف البيروقراطي -حوالي 18 حسب المعلومات التي حصلت عليها من رجل مسرحي معروف. واستهلاك ميزانيات ضعيفة لا تكفي في الغالب، إلا لإنتاج مسرحية واحدة في السنة في أحسن الفرضيات، لتسود العطالة طول أشهر السنة الباقية. ليبقى الحل كما هو سائد وطنيا، التوجه نحو فرنسا للعمل هناك بالنسبة للفنانين والتقنيين الجيدين، أو العطالة القاتلة داخل البلد الذي لا ينشط فيه الفنان إلا في المناسبات الوطنية والدينية، كما كان الحال هذه السنة عندما احتفلت الجزائر بالذكرى الستين للاستقلال، أو شهر رمضان من كل سنة.
لن أخوض في الجوانب الفنية للمسرحيات، التي شاهدتها هذا الأسبوع. فمعرفتي بتقنيات المسرح كفن لا تسمح لي بذلك، رغم إعجابي ببعض الأمور المتعلقة بالديكور واللباس، وحتى تمثيل بعض الفنانين الذين لم أكن أفهم ما يقول زملاؤهم، رغم كلامهم بالعربية وجلوسي في الصفوف الأولى. لأركز على نقطة واحدة استرعت انتباهي في كل المسرحيات تقريبا، مهما كان موضوعها. التحليق بعيدا عن مشاكل الجزائر والجزائريين، حتى بالإشارة الغامضة والبعيدة، كما يسود في بعض مدارس المسرح. علما بأنني لست من هواة المسرح الواقعي كتجربة عاشتها الجزائر في بداية الاستقلال، أنتج فيها المسرح الوطني مسرحيات ناجحة نالت إعجاب الجمهور وحصلت على جوائز وطنية ودولية. عكس مسرحيات هذا المهرجان التي دامت لأكثر من ساعة قليلا. جاءت في الغالب على شكل حوارات غامضة، بين الممثلين، من دون موضوع تقريبا. كلمات متراصة، فقدت معها اللغة معناها، فلم تعد أداة تواصل بين الناس.
حاولت طول أيام المهرجان وأنا اناقش مع الكثير من المسرحيين ان أجد تفسيرا لهذا الغموض الذي ميز المسرحيات، ليأتيني الخبر اليقين من خارج قاعة المسرح الوطني. نعم إنها الحرية التي يفتقدها الجزائري كمواطن وفنان، جعلته يلجأ إلى هذا التمويه والتقية التي تقربه من مرحلة كان قد عاشها أثناء الفترة الاستعمارية، لم يكن متاحا فيها للفنان الجزائري إلا التركيز على العلاقات بين الرجل والمرأة والأمور اليومية البسيطة، التي يفترض فيها أن تتحول المرأة الجزائرية إلى جهاز صراخ مزعج، بسبب أو من دون سبب كما تصوره «السكاتشكات» التي اشتهر بها المسرح والتلفزيون في الحقبة الاستعمارية. غياب الحرية يفرض على أصحاب المسرحيات من مخرجين ومؤلفين، الابتعاد الكلي عن كل ما يحيل إلى الجزائر كمجتمع وثقافة وعلاقات، حتى تضمن قبول المسرحية في هذا المهرجان السنوي، الذي يموله المال العام، والجزائر تعيش حملة انتخابية رئاسية ستدوم هذه المرة سنة كاملة، اعتمادا هنا كذلك على المال العام، عكس ما كان سائدا في زمن سياسي آخر – زمن بوتفليقة على سبيل المثال ـ كان فيه المرشح للرئاسيات يحاول أن يسكت عن الانتخابات لغاية الشهور الأخيرة، بل يوبخ شكليا المتزلفين من الذين يريدون استباق الحديث عنها! كما كان يحلو لأحمد أويحيى ان يفعل، عكس هذه السنة التي يختلف الأمر فيها تماما، كما شاهدنا هذا الأسبوع بمناسبة الخطاب الذي وجهه الرئيس إلى الأمة عبر البرلمانيين – لم يكن خطابا منقولا مباشرة على التلفزيون كما كان يفترض – الذي أصر أحدهم بعفوية أكيدة على توجيه دعوة للرئيس للترشح لعهدة ثانية، قربت المشهد السياسي من الصورة التي كانت سائدة في بعض دول المشرق العربي، في انتظار المسيرات العفوية التي ستؤكد للمشككين في ترشح الرئيس لعهدة ثانية – يسمح بها دستور البلد – إن الرئيس ومحيطه سيذهبون نحو هذا السيناريو الذي ليس غريبا عن الحالة السياسية الجزائرية، كما شاهدنا ذلك مع بوتفليقة، حالة سياسية تؤكد أن رئيس الجمهورية لا خيار له إلا المطالبة بعهدة ثانية وثالثة إن أمكن، لأسباب متعلقة بحالة الاضطراب التي ما زال يعيشها النظام السياسي وأسلوب وصول الرئيس إلى منصبه وتسييره طول مدة بقائه على رأس السلطة، بموازين القوى التي تعرفها العلاقات بين العصب المدنية والعسكرية المكونة لهرم السلطة في الجزائر، قد نعود لها في مناسبات أخرى خلال هذه السنة. الانتخابات التي ستعيشها الجزائر طول سنة 2024.
زيادة على المسرحيات التي تمكنت من مشاهدتها خلال هذا الأسبوع الأخير من سنة 2023، كان عليّ أن أحضر ذلك اللقاء التضامني مع الشعب الفلسطيني، تنديدا بالإبادة التي يتعرض لها سكان غزة، دعتني إليه منظمة العفو الدولية التي اكتفت بلقاء محدود في مقرها في العاصمة، بعد منعها من القاعة التي تكون قد طالبت بها لاحتضان هذا اللقاء التضامني مع الشعب الفلسطيني، في وقت تتظاهر فيه شعوب الأرض بالملايين تضامنا مع هذا الشعب الشقيق، ما زال فيه الجزائري ممنوعا من التعبير عن تضامنه خارج القاعات في أحسن الحالات، كما أصبح سائدا في الجزائر الجديدة. جزائر جديدة ما زالت مصرة على ملاحقة شبابها من الناشطين لدفعهم الى المنفى في الدول الغربية، كما حصل مع الشاب الحقوقي، زكي حناش الأسبوع الأخير من هذه السنة، بعد أن غامر في البقاء بتونس لشهور بعد خروجه من الجزائر مضطرا، نتيجة تعرضه للمضايقات والسجن. قبل ان تمنحه الحكومة الكندية حق اللجوء السياسي على ترابها. حالة هذا الشاب الحقوقي مثلها مثل مهرجان المسرح الوطني وأشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، التي تؤكد أن الجزائر تعيش أزمة حريات فعلية. مع ذلك كل عام والجميع بألف خير.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات