سيكتشف المتابع الجيد لزيارة الرئيس الفرنسي إلى الجزائر، من دون عناء كبير أن الطرف الجزائري الرسمي ممثلا برئاسة الجمهورية، هو الذي أنجح له زيارته للجزائر، التي كان يمكن أن تفشل فشلا ذريعا، بعد أن قبل الجزائريون إدخال التغييرات المهمة على نشاطات الرئيس الفرنسي خلال هذه الزيارة الطويلة – ثلاثة أيام ـ كذلك الاجتماع المهم الذي نظموه له مع القيادات الأمنية العسكرية الذي اقتصر على الأمنيين من الوفد الفرنسي، فلم يحضره حتى السفير الفرنسي في الجزائر. وهو الشيء نفسه بالنسبة للطرف الجزائري الذي اقتصر وفده على القيادات العسكرية والأمنية الكبيرة، من دون وزير الخارجية !
سابقة تاريخية، نوه بها الرئيس الفرنسي عند نهاية زيارته، التي كان يمكن أن يكتفي فيها بزيارة لمواقع ثقافية وسياحية هو والوفد الكبير الذي أحضره معه -تسعون عضوا- يلتقي فيها بالزهوانية وعبد القادر السكتور، ويكرم رياضيين جزائريين، كانوا قد فازوا بميداليات في ألعاب البحر الأبيض المتوسط، منذ أكثر من شهر وأخذ سيلفيات معهم! الأكيد كان من الصعب على وزارة الشباب والرياضة التواصل معهم لتنظيم هذا اللقاء، في عز عطلة الصيف! زيادة على بعض الوجوه من مشاهير مزدوجي الجنسية، الذين يمكن أن يتحولوا إلى مجال استقطاب وتحد كبير بين البلدين، في المستقبل المنظور، كما بدأت مؤشرات ذلك في الظهور، لن يكون من السهل على الجزائر الفوز فيه، من دون حل مسألة الحريات وإصلاح النظام السياسي، الذي رفض الرئيس الفرنسي الكلام عنها، بأي صيغة كانت، خوفا من التسبب في إفشال زيارته هو الذي قام بها أصلا، لترميم ما أمكن منها.
بدل ذلك أضيفت محطة العودة إلى الجزائر العاصمة، في اليوم الثالث والأخير من الزيارة، تم اثناءها توقيع عدة اتفاقيات قديمة – جديدة داخل القاعة الشرفية لمطار الجزائر الدولي، الذي بناه الصينيون، كما بنوا جامع الجزائر الذي زاره الرئيس الفرنسي الذي «ساعده كوفيد» في التخلص من رفيق سفر، لم يكن مرحبا به كثيرا في الجزائر. اتفاقيات لم تأت بالجديد، إذا عرفنا أنها نسخة من اتفاقيات قديمة. بما فيها تلك المرتبطة بملف الذاكرة، الذي يمكن أن ينتظر قرونا أخرى، لحين وفاة الأجيال التي شاركت أو سمعت بحرب التحرير، إذا استمر التعامل الفرنسي بالانتقائية نفسها التي طبقها لغاية الآن، كما هو الحال مع ملف المفقودين.
أنجح الجزائريون زيارة ماكرون لبلدهم، لأنهم مقتنعون بأن الرئيس الفرنسي هو الذي ورط العلاقات بين البلدين في أزمة، لم تكن لا مطلوبة ولا ضرورية، عندما قام بتصريحاته الغريبة منذ سنة، التي نفي فيها وجود أمة جزائرية قبل استعمار البلد من قبل الفرنسيين. فكان لا بد من أن يحضر للجزائر كشخص، في زيارة رسمية، حتى يرمم ما يمكن ترميمه من هذه العلاقات التي كانت متعودة على هذه المحطات الصعبة. مع فارق هذه المرة أن الرئيس الفرنسي هو الذي بادر لإفسادها بشكل جدي لاعتبارات متعلقة بحملته الانتخابية، كما قيل من قبل الكثير من الملاحظين، الذي نسوا أن يضيفوا أن الرئيس الفرنسي لم يكن يغازل اليمين المتطرف فقط، بل كان مقتنعا بصدق بما جاء في حديثه الذي أراد من خلاله كسر حاجز نفسي – سياسي، كممثل لجيل سياسي جديد في علاقاته مع الجزائر والجزائريين، الذين بينوا خلال زيارته القصيرة لوهران أنه لن يكون مرحبا به في المستقبل من قبل المواطنين، كما كان الحال مع من سبقه من رؤساء فرنسيين، خرج الجزائريون بعفوية لاستقبالهم في الشوارع. هذا بالنسبة للطرف الفرنسي. فما الذي استفاد منه الطرف الجزائري وهو يصر على إنجاح زيارة الرئيس الفرنسي حتى وهو يلغي الندوة الصحافية التقليدية للرئيسين، التي كان من الممكن أن تكون وراء أزمة جديدة بين البلدين، إذا أصرت الصحافة الفرنسية، على طرح أسئلة مزعجة للرئيس الجزائري، الذي ما زال يجد صعوبات في التعامل مع الإعلام، دون الكثير من التقييد الذي تعود عليه. زيارة كان يمكن ألا تحصل في هذا التوقيت وتفشل في نهاية الأمر، بعد مرحلة القطيعة بين البلدين التي وصلت إلى استدعاء السفير الجزائري ومنع المجال الجوي على الطيران العسكري الفرنسي.
النظام الجزائري، عكس كل ما يدعيه ما زال في حاجة قوية إلى فرنسا، حتى بعد التغييرات التي عرفتها الساحة الدولية، نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا التي زاد فيها الاهتمام بالجزائر، على أكثر من صعيد. فالمحيط الإقليمي للجزائر يعيش حالة اضطراب كبير، يمكن أن يتحول إلى ما لا تحمد عقباه، طول الحدود الدولية للجزائر، شرقا غربا وجنوبا. في وقت تدهورت فيه العلاقات مع الجار الإسباني شمالا، الذي لم ينجح حتى الآن في جر الجيران الأوروبيين للجزائر، نحو مواقف عدائية، وإقحام البلد في صراع مع الحلف الأطلسي، بحجة تبني الجزائر للمواقف الروسية إقليميا ودوليا، كما هو الحال، في دول الساحل، وهو ما يعرف الأمريكيون إنه غير صحيح، هم الذين جربوا العلاقات مع الجزائر، في عز الحرب الباردة، عندما كانت تبيع الغاز لهم، دون أن يمنعها ذلك من تأييد الشعب الفيتنامي، في حربه الوطنية ضد الجيش الأمريكي نفسه. المسعى نفسه الذي لم ينجح فيه الطرف المغربي وهو يحاول إقحام الجزائر في علاقات مشبوهة مع إيران، استغلالا للظرف الدولي المركز على محاربة الإرهاب، ودور إيران المفترض فيه. لتبقى الجزائر ضمن هذا المسعى العام في حاجة إلى فرنسا كطرف دولي وإقليمي مهم، على أكثر من صعيد، بما فيها الجوائب الاقتصادية – التي تملك داخل الجزائر لوبيات قوية تاريخيا، يمكن أن تدافع عنها ـ رغم ما تبين من ضعف التنافسية، لدى الطرف الفرنسي الذي لم يعد قادرا على مواجهة الفاعلين الاقتصاديين الحاضرين في السوق الجزائر، كما هو حال الأتراك والصينيين والإيطاليين والألمان، ما جعل الرئيس الفرنسي يشير أثناء زيارته إلى تلك القوى الدولية التي تريد تأجيج العداء التاريخي لفرنسا، في افريقيا، محددا اثنين منها بالاسم، الأتراك والروس.
من هنا نفهم التوجه الفرنسي في الاهتمام بملف الشباب في العلاقات مع الجزائر وعلى الفعل الثقافي بالذات، رغم الخسارة التي يمكن أن تمنى بها فرنسا في هذا الملف كذلك، على المديين المتوسط والبعيد بفعل الخيارات اللغوية التي انطلقت الجزائر في تبنيها، بالعمل على تشجيع اللغة الإنكليزية التي يقف وراءها العملاق الامريكي، زيادة على بريطانيا والكثير من دول العالم، بما فيها قوى أوروبية كبيرة كالألمان الذين يساعدهم أكثر اعتماد الجزائر الإنكليزية، بدل الفرنسية التي لم تكن إلا لصالح فرنسا لوحدها وهي تعيش حالة انحسار في نفوذها وقوتها كقوة استعمارية قديمة، في كل افريقيا وليس الجزائر فقط.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات