عرفت الجزائر للسنة الثانية على التوالي، منتصف الشهر الجاري، اندلاع حرائق مهولة، كلفت العشرات من الأرواح البشرية، التي ما زالت مرشحة للارتفاع ـ 41 وفاة حسب مصادر إعلامية و160 مصابا بحروق متفاوتة الخطورة – والكثير من الخسائر على مستوى الثروة الغابية، والأملاك الخاصة والعمومية.
الحرائق تركزت هذه السنة في منطقة الشرق الجزائري، على الحدود مع تونس، في ولايتي الطارف وسوق أهراس، المعروف عنها، كولايات، الطابع الفلاحي المرتبط بتربية الحيوانات والمحميات الطبيعية الجميلة. حرائق تم الإعلان عن التحكم فيها إلى حد كبير، اعتمادا على القدرات الوطنية، من دون الاستعانة بأي مساعدة أجنبية، كما يجرى في الغالب، في مثل هذه الحالات في الجزائر التي تتعامل مع هذه الحالات كقضية شرف! كما يؤكده التعويض اللاحق للمتضررين، اعتمادا على الوفرة المالية التي يتمتع بها البلد في الوقت الحالي.
اندلعت هذه الحرائق في وقت شهدت فيه المنطقة، درجات حرارة غير مألوفة حتى في فصل الصيف، بعد موجة جفاف طويلة، تكون قد ساعدت على انتشار هذه الحرائق، كما كان الحال في الكثير من دول المتوسط، بضفتيه الجنوبية والشمالية. التي تعيش فترة اضطراب مناخي كبير، جراء التحولات التي تعيشها الكرة الأرضية، التي تتعامل معها الدول والشعوب بدرجات مختلفة من العقلانية والجدية، للتخفيف من آثارها وتوقع حدوث نتائجها، كما يمكن قياسه بمؤشر الخسائر البشرية للحرائق هذه السنة، رغم الاختلاف في الحجم الديموغرافي بين بلدان المنطقة، وكثافة الغطاء النباتي فيها وصعوبة تضاريسها، لتبقى الجزائر من الدول الأكثر تضررا من هذه الحرائق كل سنة، إذا اخذنا مؤشر عدد الوفيات هذه السنة والسنة الماضية. فماذا حصل حتى يتحول الموت حرقا إلى قدر محتوم أمام عشرات الجزائريين، كل سنة وفي كل صيف؟ ما يحصل في التعامل مع الحرائق واستباق التحولات المناخية المرتبطة بها، يمكن أن يعطينا صورة عن العقلية السياسية الحاكمة، التي لم تخرج لحد الساعة من سيطرة القراءة الأمنية، التي تربط بشكل واضح بين هذه الحرائق، وأياد آثمة تريد الشر للجزائر والجزائريين، قراءة اعتمدت كوسيلة مثلى للزيادة من حجم الخوف عند المواطنين، بدل القراءة العقلانية التي تربط هذه الحرائق بالتحولات المناخية التي تعيشها الكرة الأرضية، ومدى القدرة على تلافيها والتخفيف من آثارها، عن طريق أخذ الاحتياطات اللازمة في وقتها، كما كان يمكن أن يحصل في الجزائر، لو تم شراء طائرات إطفاء تتطلبها شساعة هذا البلد القارة، كما حصل في الكثير من دول العالم الأصغر مساحة، التي تخلصت من هذه القراءة الأمنية، وأخذت بأسباب العلم واستباق الأحداث، مفضلة التعامل مع الغابة كمجال اقتصادي مهم، يخضع إلى اعتبارات اقتصادية في المقام الأول، يجب أخذه بعين الاعتبار وهي تتعامل مع الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين الذين يستغلونه ويعيشون من ثرواته الطبيعية التي طالها سوء التسيير، كما هو حاصل في قطاعات أخرى.
قراءة أمنية عادت هذه السنة – حتى لو كان ذلك بدرجة أقل، مقارنة مع السنة الماضية – التي اخذت فيها أبعادا دولية، للتغطية على العجز الرسمي الذي لم يتعامل بالجدية المطلوبة، مع نتائج التحولات المناخية التي يعيشها العالم، بما فيه منطقة المتوسط الهشة مناخيا، سواء تعلق الأمر بالحرائق أو الفيضانات التي تعيشها بانتظام المدن الجزائرية الغارقة في فوضى تسيير عمراني رهيبة، على طول الساحل الشمالي، الذي تكتظ فيه أغلبية الجزائريين والجزائريات، تاركين الصحراء ومناطق الهضاب العليا للفراغ القاتل، ما يحيل هذه المظاهر المناخية كالحرائق والفيضانات إلى أسباب أكثر ديمومة وجدية، لا يمكن فهمها من خلال تصرفات لأفراد محدودين يريدون الشر للجزائر، مهما كان عدد الولاعات التي تضبط في منازلهم أو جيوبهم! قراءة أمنية يساعد على انتشارها وتوسيع آثارها، حضور إعلام مرئي – مسموع ومكتوب، عام وخاص، غير مهني، تحول مع الوقت إلى خطر على الجزائر والجزائريين، قد يضاهي، بل يزيد على خطورة الحرائق والفيضانات نفسها، لم يقم بما هو مطلوب منه كقاعدة عامة، ليكتفي بالنفخ في التصريحات الرسمية، وهو يطرح أسئلة متفق عليها مسبقا مع المسؤولين، ومساعدتهم على الإجابة عنها على المباشر! مسؤولون من المنتظر، رغم ذلك أن يدفعوا ثمن هذه الحرائق، بكمها الهائل من الأرواح البشرية والخسار المادية المرتبطة بها، قبل نهاية هذا الصيف، تغيير من المحتمل أن يظهر على شكل تحوير كبير على تركيبة الحكومة، وسلك الولاة كحد أدنى في المرحلة الأولى، رغم أنه يمكن أن يمس مستويات أخرى في قطاعات كثيرة لاحقا.
تلهية أخرى سيدفع ثمنها بعض المسؤولين الموجودين على واجهة السلطة، الذين سيقوم مركز القرار الفعلي بتدويرهم مؤقتا، رفضا للتغيير الجدي المطلوب من قبل الجزائريين، ليس على مستوى واجهة السلطة فقط، بل على آليات التسيير وثقافته ومؤسساته، التي خرج يطالب بتغييرها بمناسبة حراكه الشعبي في 2019 حتى لا تتحول إلى خطر على الجزائر والجزائريين، كما تؤكد كل سنة حرائق الصيف وفيضانات الخريف، إذا اكتفينا بالظواهر التي لها علاقة مباشرة بتحولات الطبيعة التي ما زالت تطالب فيها بعض الأوساط الدينية من الجزائريين، الزيادة من درجة حرارة الدعاء لإيقافها، أو حتى الموت حرقا، لأن المتوفى سيتوجه رأسا نحو الجنة كشهيد، كما جاء في فتوى لأحد شيوخ السلفية. شيخ ما زال يستمع له بعض الجزائريين، بدل الأخذ بالأسباب وإعمال العقل، كما تفعل بقية شعوب العالم في زمننا هذا، بعد التخلص من هذه النظرة الخرافية في التعامل مع الظواهر الطبيعة، التي عرفت كيف تتكيف بشكل لافت، عبر السنين، مع انتشار التعليم بالمحتوى الذي منح له من قبل مدرسة عمومية متهالكة، لم تساعد روادها على ولوج عصرنة، ما زالت غائبة عند النخب، ناهيك من الأوساط الشعبية الواسعة التي خرجت من الأمية منذ فترة قصيرة، بمن فيهم الشباب، الذي أعاد جزء منه الوصل مع هذه القراءة الخرافية للظواهر الطبيعية، في غياب قوى عقلانية حاضرة شعبيا، كان يمكن أن تقوم بعمل تنويري، لم تنجزه نتيجة الانقسامية اللغوية التي عُرفت بها النخب في الحالة الجزائرية، أدت في النهاية إلى اضعاف دورها التاريخي، كما بينته عدة محطات من تاريخ البلد.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات