اخترت اليوم ان أتكلم عن الذكرى الستين من استقلال الجزائر، من خلال حالتي الشخصية كنوع من السيرة الذاتية، أو دراسة الحالة – منوغرافياً- كما يقول علماء السوسيولوجيا، لعلها تكون مفيدة للقارئ، للتعرف عما حصل في الجزائر وكيف حصل وكيف لم يحصل. بداية من الأيام الأولى للاستقلال، عندما كان سني لا يتجاوز السبع سنوات. فقد عشت اليتم، قبل الاستقلال بأشهر قليلة، حين قامت منظمة الجيش السري باغتيال والدي في العاصمة، لتمتزج فرحة استقلال البلد بالحزن على فقدان الوالد.
اهم الصور التي ما زالت عالقة بذهني عن هذه المرحلة هي انتظار عودة المساجين ونزول المجاهدين من الجبل، الذين كان من بينهم خالي وابن عمي والكثير من أبناء قريتي، الواقعة على سفوح جبال الأوراس الجنوبية المحاذية لمنطقة الحضنة. بالطبع حزن العائلات التي انتظرت أبناءها من دون أن تراهم يعودون، كان عميقا وهي تعيش على أمل عودتهم ذات يوم، من تونس التي قيل للعائلات إنهم كانوا على ترابها مع جيش الحدود.
من الصورة المؤلمة التي احتفظت بها ذاكرة الطفولة حتى اليوم مرتبطة بالمصير الذي لاقاه الحركى – المتعاونون مع الجيش الفرنسي ـ من سوء معاملة وسجن في القرية. حركى تم إلقاء القبض عليهم في سوق القرية وبحوزتهم أوراق، اعتبرها جنود جيش التحرير، ومراكز السلطة الجديدة، شكلا من أشكال الإدانة لهم. حركى سرعان ما نسيهم أهل القرية الذين تركوهم من دون طعام لأيام متتالية، قبل اختفائهم النهائي…لا أعرف حتى الآن إن كانوا قد قتلوا، أو تم ترحيلهم إلى جهات أخرى للتكفل رسميا بحالتهم. لم يطل المقام بعائلتي الصغيرة المكونة من أمي وأخوين اثنين، في القرية، فقد غادرناها كما غادر الكثير من الجزائريين خلال هذه الفترة قراهم ومداشرهم نحو المدن الكبرى في الشمال. كان من حظنا التوجه نحو الجزائر العاصمة، التي يملك أبناء قريتي علاقات هجرة قديمة معها، لدرجة أننا لم نغير من لهجتنا والكثير من عاداتنا ونحن ندخل للإقامة في حي بلكور، الذي سكنه أبناء قريتي بكثافة كبيرة. لم يكن من الصعب الحصول على سكن خلال هذه الفترة، رغم كثافة الهجرة، نتيجة هروب المعمرين وتركهم الكثير من الأملاك شاغرة في الأحياء العصرية التي اكتشفها الجزائريون لأول مرة في حياتهم، بكل ما حملته معها من مزايا أخرى كالكهرباء والماء الشروب والمدرسة والكثير من شروط الحياة التي كانت غائبة في قريتنا الصغيرة. لم أشعر كثيرا باليتم، بعد أن عوضت الدولة الوطنية غياب الوالد، زيادة بالطبع على التضامن العائلي بين أبناء عائلتي الصغيرة، التي ساد فيها الزواج الداخلي الذي زاد من قوة الترابط بين أفرادها وجعلنا نحن الصغار لا نشعر باليتم ولا حتى الفقر، ونحن ندخل المدرسة العمومية داخل المدينة هذه المرة وليس القرية، التي كنا نزاوج فيها بين التعليم العصري بموازاة المدرسة القرآنية، التي كنا ننطلق نحوها على السادسة صباحا قبل التوجه للمدرسة الرسمية لتعلم العربية وحفظ القرآن. مزاوجة بين التعليمين لجأت إليها العائلة الجزائرية خوفا من علمانية المدرسة الفرنسية التي درست فيها قبل الاستقلال.
نجاحي في الدراسة جعلني وأنا صغير، سعيدا بالوقت الذي أقضيه داخل المدرسة والجامعة التي التحقت بها لاحقا للحصول على منحة للدراسة في جامعة فرنسية، بعد الانتهاء من مرحلة الليسانس في الجزائر. والعودة بسرعة إلى التدريس في الجامعة. في حين كان شعوري بالتفاوت الاجتماعي كبيرا خلال مرحلة الدراسة في الثانوية، التي أحسست فيها لأول مرة بنوع من الغبن الاجتماعي في جزائر بومدين، وانا أشاهد بالعين المجردة سيارات التلاميذ ولباسهم الجميل في ثانوية المقراني المختلطة في أعالي العاصمة، ما جعلني أهرب نحو ثانوية الإدريسي الأكثر شعبية، القريبة من مقر سكن العائلة. لتنطلق مرحلة مهمة في حياتي تتعلق بمرحلة الدراسة الجامعية، التي كانت محطة نشاط سياسي كذلك داخل صفوف الحركة الطلابية، بوجهها اليساري الغالب خلال مرحلة حكم الرئيس بومدين، الذي عارضناه بشدة. فترة تعرفت فيها على الكثير من الأفكار التي قربتني من اليسار الممزوج مع نوع من الوطنية الجذرية، بعمقها الشعبي استمر معي كقناعة لحد الآن، رغم عدم انضمامي لأي تنظيم سياسي. في جامعة عرفت خلال هذه الفترة بداية بروز تيارات سياسية قومية وثقافية أمازيغية وإسلامية، ستتقوى أكثر مع الوقت، لتبقى السيطرة واضحة لنوع من اليسار الستاليني، القريب من أطروحات السلطة، سيطر على الجامعة لعقدين على الأقل، بعد الاستقلال.
أعتقد أننا كنا محظوظين جدا كجيل، إذا قارنا أنفسنا مع الأجيال الحالية. كانت أمامنا فرص عمل واستقرار اجتماعي أكثر، على الرغم من انتقائية التعليم التي كانت أكثر صرامة إذا اخذناها من زاوية نسب النجاح في البكالوريا كمثال، فكان من السائد أن يدرس الطالب ويشتغل كاطار في الوقت نفسه، بل يتزوج من زميلته التي تعرف عليها في الجامعة، كما كان سائدا لدى هذا الجيل «الوطني» في خيارات زواجه، التي جعلته يبتعد عن منطق القرية، كما فعلت أنا حين قررت الزواج. لنعيش سنوات عجاف طويلة خلال مرحلة حكم الشاذلي التي عشناها كمرحلة انكسار وتشتت كبلد وجيل، وهو يرى كيف بدأت جزائر جديدة في التكشير عن أنيابها، عبّرت عن نفسها على شكل بروز تيارات دينية عنيفة كانت نائمة، لتطفو على السطح بدأت شخصيا في تحسس وجودها في حي بلكور، الذي كنت أسكنه بالقرب من مسجد «كابول» الذي كان جاري فيه عباس مدني، الذي كان من الأحياء الأكثر سخونة في العاصمة. عاش لاحقا اغتيالات كثيرة جعلتني أقرر تغيير مكان سكني. خوفا على حياتي وتوقيف كتابة عمود أسبوعي عليه صورتي. تجربة الصحافة التي استمرت معي في عناوين مختلفة وصولا إلى مرحلة التضييق الحالية التي لم تعرف الجزائر مثيلا لها.
عشرية كاملة ضاعت منا كجيل عشنا فيها الخوف على حياتنا، وعلى وطننا الذي كنا ننظر الى مستقبله بتفاؤل فيه الكثير من السذاجة، كما تبين لنا لاحقا. لم نستوعب فيها مدى الدمار الذي تسبب فيه حكم الرئيس الشاذلي، الذي ما زالت الكثير من القوى الاجتماعية المستفيدة تنظر إليه نظرة إيجابية. باعتبارها فترة استهلاك و»ليبرالية «وهي تقارنها بفترة بومدين الصارمة والمتقشفة. بعد عشرية الشاذلي، عشمت أنا وجيلي عشرينية بوتفليقة، التي انهيناها بحراك شعبي حلمنا خلاله بجزائر أخرى، سيكون بناؤها أحد مهام الأجيال الشابة التي كونت لحظة الحراك تجربتها السياسية المركزية الجماعية، بكل التفاؤل الذي حملته معها للجزائريين الذين يحتفلون بذكرى استقلال بلدهم الستين» وهم أكثر ثقة في المستقبل.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات