أخبار عاجلة

مبادرة تبون "لم الشمل" حوار الذئب مع ذيله

في الجزائر هذه الأيام كلام كثير عن مبادرة للحوار الوطني ولمِّ الشمل يتردد أن الرئيس عبد المجيد تبون ينوي إطلاقها.
اللافت أن كل الناس يتحدثون عن المبادرة إلا رئاسة الجمهورية. بدل أيّ كلام رسمي في الموضوع اختارت الحديث عبر وكلاء.
توزيع الأدوار في هذا النوع من المواقف ليس جديدا على منظومة الحكم في الجزائر. في كل مرة تريد هذه المنظومة طرح مبادرة ما، تلجأ إلى وكلائها السياسيين والإعلاميين لاختبار المياه، ثم التصرف على ضوء ردود الفعل.
خلال الأسبوعين الماضيين استقبل الرئيس تبون قادة بعض الأحزاب الموالية للحكم. لم يقل أحد أن الاستقبالات تدخل ضمن «مبادرة لمّ الشمل». بل استُعملت عبارات مُعلَّبة جاهزة من قبيل «بحث الانشغالات الوطنية وتبادل وجهات النظر» كما جاء على لسان ضيوف الرئيس عند خروجهم من لقائه.
عندما سأل موقع «كل شيء عن الجزائر» الناطق بالفرنسية رئيس حزب «جيل جديد» سفيان جيلالي، هل تناول معه الرئيس «المبادرة» خلال استقباله إياه، أجاب بالنفي وقال إنه أبلغه برغبته في «إشراك الأحزاب في حوار حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المقبلة» (14 أيار/مايو).
احتاج الأمر فترة أطول ليكشف تبون من تركيا، خلال زيارة رسمية، عن قرب تنظيم «ندوة شاملة تجمع كل الأحزاب» بهدف «تشكيل جبهة داخلية موحدة».
بعيدا عن شكل الفكرة وطرق تسويقها، هل الجزائر فعلا في حاجة إلى ندوة (أخرى) لبحث مشاكلها السياسية وتوجهاتها الكبرى؟ علما أنها نظمت ندوات مماثلة في السابق وكانت النتيجة مزيدا من الانسداد وتراجع الآفاق.
أحد أسباب فشل الندوات السابقة وعدم الإفراط في التفاؤل بالمقبلة، النية والمشاركون. إذا أصر النظام على الحوار مع الأحزاب نفسها والتنظيمات الجمعوية والنقابية ذاتها التي تدور في فلك السلطة، فسينطبق عليه كلام المرحوم حسين آيت أحمد في التسعينيات عندما قال إن «حوار السلطة عندنا يشبه حوار الذئب مع ذيله».
الأحزاب التي استقبل قادتَها تبون خلال الأسبوعين الماضيين أو الثلاثة شريكة في الفساد السياسي والاقتصادي الذي رعاه المخلوع بوتفليقة وعصابته، وحتى المنظومة الحاكمة قبله. حزب جبهة التحرير، منذ الإطاحة بالراحل عبد الحميد مهري من زعامته سنة 1996، التزم سياسة مباركة قرارات السلطة الحاكمة والتواطؤ معها في كل غيّها وفشلها. وزاد أكثر مع وصول بوتفليقة. التجمع الوطني الديمقراطي وُلد للمهمة نفسها وليكون مكملا لجبهة التحرير في التواطؤ وبديلا لها عند الضرورة. وأبدع أكثر في التواطؤ في عهد المخلوع. حركة مجتمع السلم اختارت دائما أن تضع رجلا في الحكم وأخرى في المعارضة، لولا أن في الجزائر لا الحكم مفتوح يمكن ولوجه ولا المعارضة موجودة يمكن ممارستها. وهذا تاهت «حمس» بين وهمين. بقية الأحزاب بلا هوية ولا وجود، كل همّ قادتها أن يستقبلهم الرئيس (أيًّا كان هذا الرئيس) بضع دقائق ويبث التلفزيون لحظات من الاستقبال أو من اجتماعات يعقدونها.

لا أدعو لإقصاء هذه الأحزاب والتنظيمات. لكن في الوقت ذاته لا يمكنها أن تقود أيّ مبادرة جادة، ففاقد الشيء لا يعطيه. هذه الأحزاب والتنظيمات وتفرعاتها احترفت التزكية وتلميع الطغيان والفساد منذ 30 سنة. إذا كانت الرئاسة تُعوّل عليها لإنجاح «الندوة الشاملة» فمن الأفضل أن تعيد التفكير. مشكلة النظام الجزائري ليست مع جبهة التحرير الوطني وضُرَّاتها، وإنما مع مجتمع يتوق للحرية ولحياة كريمة.
المجتمع السياسي والإعلامي في الجزائر يشبه حقل أنقاض بفعل عقود من التدمير شاركت فيها بقوة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي ينوي تبون إشراكها في بناء المستقبل. الجزائر تعيش اليوم زحفا خطيرا للتصحر السياسي والفكري. البلاد لا تنتج أفكارا، وخالية من النقاشات الفكرية والسياسية المتناقضة لأن السلطة ترى في أيّ نقاش حر بذرة حراك آخر.
الفضاء العام مغلق بالشمع الأحمر إلا لحلفاء النظام وضمن أُطر متقلبة لا أحد يعرف بدايتها ونهايتها. لهذا طغت لغة الدعم والثناء والشكر، كما كنا في عهد المخلوع، وغاب النقد البنَّاء والنقاش الجدي المفيد.
لا غرابة أن هذا التصحر هو الذي نقل النقاش من الواقع إلى المجال الافتراضي، ومن داخل البلاد إلى خارجها بعيدا عن أيّ سيطرة للنظام وأذرعه. وهو أيضا ما أدى إلى اختزال المعارضة الجزائرية في كيان واحد، حركة رشاد، وعدد محدود جدا من الأشخاص أبرزهم محمد العربي زيتوت، أمير بوخرص المدعو «دي زد» وغاني مهدي. كل ما يحتاجه هؤلاء هواتف محمولة وحسابات في يوتيوب وفيسبوك لإلحاق أذى غير مسبوق بالسلطة الجزائرية. كان على هذه السلطة أن تتوقع أن هؤلاء هم مَن سيملأ الفراغ عندما اختارت إقصاء المعارضة الداخلية الجادة والمجتمع المدني المخلص، وهما موجودان رغم قلّتهما.
ما تحتاجه الجزائر اليوم ليس ندوة ضخمة تُهدر عليها المليارات. يمكن الوصول إلى نتائج أفضل بكلفة وجهد وضجيج أقل. الجزائر في حاجة إلى ثقة في اتجاهين، من السلطة نحو المجتمع والعكس. السلطة الحاكمة، لأنها حاكمة، هي التي تتحمل مسؤولية بناء هذه الثقة. الثقة، عندما تتوفر، تُسهّل انتهاج نهج جديد، هو الطبيعي وهو الأصل: التخفيف من الإدارة الأمنية للشأن العام، كفّ السلطة عن النظر للمجتمع على أنه قاصر، ورفع يدها عن القضاء وعن الإعلام، وإرجاع الفضاء العام للمجتمع يمارس فيه حريته الفكرية والسياسة والشخصية، على أن يكون القانون وحده هو الفيصل. لا يستوي هذا من دون الإفراج عن المعتقلين السياسيين وكفّ المتابعات القضائية بحقهم وإعادة الاعتبار لسجلاتهم المدنية والقضائية. ورجاءً لا داعي للقول «ما عندناش سجناء رأي».
يمكن دائما البدء بخطوة ما في مكان ما. مَن لا يجرّب الشيء لن يعرف طعمه. الامتناع عن البدء يعني الإصرار على البقاء في هذا المربع المظلم، ويعني تأخير البدء في بناء الجبهة الداخلية التي يحلم بها كل الجزائريين.
عيد الاستقلال في تموز (يوليو) المقبل فرصة لخوض الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، بلا ضجيج ولا احتفالات ولا تطبيل. النية الصادقة هي الأساس. الباقي تفاصيل عندما تتوفر هذه النية.

توفيق رباحي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات