تحاول الجزائر منذ سنة 2019 العودة قوة إقليمية بعد سنوات من الجمود الدبلوماسي، خاصة خلال فترة مرض الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ويعد الملف الليبي من أهم الملفات بالنسبة إليها؛ إذ تجمع الجزائر بليبيا حدود برية على طول يناهز الألف كيلومتر، بالإضافة إلى العلاقات التاريخية، والاقتصادية، والسياسية العميقة.
وفي هذا الصدد يقول أستاذ القانون الدولي الجزائري عمار روابحي لـ«ساسة بوست»: المؤكد أن «الجزائر تريد العودة إلى مجال التأثير الإقليمي، خاصة بعد تولي عبد المجيد تبون رئاسة الجمهورية، وتكليف رمضان لعمامرة بوزارة الخارجية، ويبقى الملف الليبي من أهم الملفات التي تسعى الجزائر إلى التوقي من تداعياته الأمنية على حدودها، والتأثير في مساره السياسي من أجل تحقيق الاستقرار، وخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية». وكانت الجزائر قد أعلنت نية تنظيم حوار بين الليبيين، واشترط الرئيس تبون إنجازه بتوفر شروط نجاحه وقبول مختلف الأطراف الليبية بنتائجه، كما احتضنت الجزائر لقاءات لدول الجوار الليبي بهدف بحث حلول للأزمة الليبية.
وزار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة الجزائر في 18 من شهر أبريل (نيسان) 2022 ليعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إثر ذلك دعم بلاده لحكومة الدبيبة، ومسار إنجاز انتخابات ليبية في أقرب الآجال بما يحقق الاستقرار في ليبيا والمنطقة بحسبه، إذ قال تبون في لقاء مع الإعلام الجزائري: إن «الجزائر تدعم الشرعية الدولية في ليبيا من خلال حكومة الدبيبة، وأن الاستبدال بها يكون عبر انتخابات تفرز مجلسًا نيابيًا جديدًا يعين حكومة جديدة».
وشدد تبون قائلًا: «نحن لن ندخل بمسار التفرقة في ليبيا، لقد جرى تعيين حكومة جديدة من طرف مجلس وطني، والحكومة التي لديها شرعية دولية هي حكومة الدبيبة، ونحن ندعم الشرعية الدولية، ولن يكون شيء آخر من غير هذه الشرعية الدولية».
ويأتي الموقف الجزائري في ظل تصاعد أزمة تنازع الشرعية بين حكومة الدبيبة، وحكومة فتحي باشاغا، ومخاوف ليبية ودولية من عودة النزاع المسلح إلى ليبيا، ويفتح هذا الموقف الجزائري باب التساؤلات أمام دوافع هذا الموقف وتداعياته على الساحة الليبية.
الجزائر وهاجس حماية الحدود مع ليبيا
يعد الملف الأمني من أولويات السلطة الجزائرية في التعاطي مع الملف الليبي، ومن أهم الزوايا المحددة لمواقفها منه؛ إذ ترصد الجزائر إمكانات كبيرة لحماية حدودها الجنوبية والشرقية مع ليبيا، وهو ما أكده الرئيس الجزائري قائلًا «نحن نحرس حدودنا مع ليبيا الممتدة على ألف كيلومتر، وهناك تعبئة تكلفنا مصاريف إضافية كنا نود استعمالها في التنمية، فكلما دخلت أسلحة إلى ليبيا نجد أنفسنا مضطرين لشراء أسلحة مضادة لها».
وكان مجلس الأمن الوطني الجزائري قد قرر في نهاية سنة 2019 اتخاذ إجراءات أمنية احترازية لحماية الحدود المشتركة مع ليبيا. وتتزايد مخاوف الجزائر في ظل الفوضى التي تعرفها ليبيا، وانتشار السلاح فيها بشكل مكثف، وعجز الدولة الليبية عن حماية حدودها، وتعرف الحدود الليبية الجزائرية نشاطًا كبيرًا للحركات المسلحة وشبكات الجريمة المنظمة.
وكانت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش قد زارت الجزائر في السابع من أبريل الجاري، وأفادت تقارير بأن اللقاءات التي جمعتها بالرئيس تبون ووزير خارجيته قد تناولت في الأساس أمن الحدود وخطر تداول السلاح بها، وملف الهجرة غير النظامية.
وعبرت الجزائر في مناسبات عديدة رفضها توريد السلاح إلى ليبيا بالإضافة إلى مطالبتها بخروج المرتزقة منها، كما أعربت عن مخاوفها من أن تتحول ليبيا إلى ساحة اقتتال على غرار الصومال إذ قال تبون في وقت سابق إن «الحظ الجيد في ليبيا أن القبائل حتى الآن تحلت بالحكمة، بعكس ما يظنه كثيرون؛ فالمرتزقة وغيرهم من اقترفوا انتهاكات، ولكن إذا طفح الكيل فإن القبائل الليبية ستبدأ بالدفاع عن نفسها وتتسلح، حينذاك لن نجد النموذج السوري في ليبيا، بل النموذج الصومالي، وحينها لن يكون بإمكان أي شخص أن يفعل أي شيء. وقد تتحول ليبيا إلى ملاذ للإرهابيين، والجميع سيرسل إرهابييه إلى هناك لتنظيف بلدانهم».
وبالإضافة إلى الهاجس الأمني تسعى الجزائر أيضًا إلى تحقيق الاستقرار في ليبيا بحثًا عن فرص تعاون اقتصادي معها، خاصة في مجال الطاقة.
الحرب في أوكرانيا.. فرصة تعزيز التعاون في ملف الطاقة
وتعد ليبيا والجزائر من أهم الدول المنتجة للغاز؛ إذ تحتل الجزائر المرتبة العاشرة عالميًا، والثالثة عربيًا، من حيث إنتاج الغاز الطبيعي سنة 2020 فيما تعد ليبيا الدولة الثامنة عربيًا من ناحية احتياطيات الغاز الطبيعي في نفس السنة، وكانت الدولتان وجهة العديد من المسؤولين الغربيين بحثًا عن إمكانية تعويض الغاز الروسي من خلالهما إثر الحرب الروسية في أوكرانيا، وكان وزير الخارجية الإيطالي قد زار الجزائر بحثًا عن فرص تطوير إمدادات الغاز الجزائري والليبي إلى إيطاليا؛ إذ ترى الحكومة الإيطالية أن ليبيا يمكن أن تكون من الدول القادرة على تعويض الغاز الروسي.
و
على جانب آخر صرح رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة خلال زيارته الأخيرة للجزائر أنه تحدث مع الجزائريين عن زيادة التعاون الاقتصادي، خصوصًا في قطاعي النفط، والغاز، والتحكم في الأسعار وتسويقها، في ظل الظروف الاقتصادية العالمية الحالية.
وقد وقعت شركة الطاقة الجزائرية «سوناطراك» في فبراير (شباط) الماضي بالعاصمة طرابلس بروتوكول اتفاق مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، يقضي باستئناف الأولى نشاطها في ليبيا بعد توقفه منذ اندلاع الأزمة في 2011.
ويشهد ضخ الغاز والنفط تقطعات متواصلة من ليبيا بسبب عمليات الغلق الحاصلة في المناطق الجنوبية والشرقية في ليبيا، وتراهن القوى الغربية والحكومة في ليبيا على الجزائر من خلال تأثيرها على الأطراف المسيطرة على الجنوب الليبي لاستئناف ضخ النفط والغاز.
وفي هذا السياق يقول دبلوماسي جزائري رفض ذكر اسمه لـ«ساسة بوست» أن «من بين أهم النقاط التي بحثها وزير الخارجية الأمريكية بلينكن خلال زيارته إلى الجزائر مع الرئيس تبون هو مساهمة الجزائر في ضمان تواصل ضخ الغاز والنفط من خلال علاقتها الجيدة مع قبائل الجنوب الليبي الذي يشهد غلق مضخات النفط والغاز بسبب الإحتجاجات على حكومة الدبيبة».
الجزائر vs الدول الداعمة لحكومة باشاغا
ويتقاطع الموقف الجزائري من الوضع الليبي مع خيارات أنقرة التي عبر عنها وزير خارجية تركيا جاووش أوغلو خلال لقائه بوزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي خلال شهر مارس (آذار) المنقضي، والذي عبر فيه على أن تركيا وبكل إمكانياتها تقف إلى جانب الشعب الليبي، وتدعم حكومة الوحدة الوطنية، وجهود وزيرة الخارجية من أجل تحقيق الاستقرار في ليبيا.
في المقابل تختلف الجزائر من خلال موقفها الداعم لحكومة الدبيبة مع قوى إقليمية أخرى داعمة لحكومة باشاغا أهمها مصر والإمارات؛ إذ تعد مصر الدولة الأبرز في دعم باشاغا وحكومته حيث كانت وزارة الخارجية المصرية في مقدمة القوى الإقليمية والدولية التي رحبت بإعلان باشاغا رئيسًا للحكومة من قبل البرلمان.
ويؤكد أستاذ القانون الدولي بجامعة بومرداس الجزائرية عمر الروابحي لـ«ساسة بوست» هذا التجاذب قائلًا إن «الموقف من الحكومة الليبية يعرف اختلافات في وجهات النظر بين عدد من الأطراف الدولية المعنية بليبيا»، ويرى الروابحي أن «الموقف الجزائري أقرب إلى الطرف التركي وإلى جناح طرابلس منها إلى المحور الروسي الفرنسي الإماراتي المصري الداعم لتحالف باشاغا وعقيلة صالح وحفتر».
وحول تأثيرات الموقف من الوضع في ليبيا على العلاقات الجزائرية المصرية يعتبر الدكتور عمر الروابحي بأن موقف الجزائر يعدل موازين القوى في ليبيا بما يجعل الأطراف الدولية المختلفة تدفع نحو الحوار، وتجنيب البلاد السقوط المسلح، ويستبعد أستاذ القانون الدولي الجزائري بأن يتسبب ذلك في أزمة بين الجزائر ومصر وبقية الدول الداعمة لباشاغا.
وترجع الجزائر دعمها لحكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة إلى التزامها بدعم ما تعتبره الشرعية الدولية في ليبيا، باعتبار أن هذه الحكومة جاءت إثر إنتخابات ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي نظمته الأمم المتحدة بجنيف سنة 2021.
وقال الرئيس الجزائري في هذا الاتجاه «نحن لن ندخل في مسار التفرقة في ليبيا.. جرى تعيين حكومة جديدة (حكومة باشاغا) من طرف مجلس وطني والحكومة التي لديها شرعية دولية هي حكومة عبد الحميد الدبيبة، ونحن ندعم الشرعية الدولية، ولن يكون شيء آخر من غير هذه الشرعية الدولية».
أيضًا الواضح أن رفض الجزائر حكومة فتحي باشاغا يعود أساسًا إلى تحالف الأخير مع القائد العسكري المتقاعد خليفة حفتر، الذي تعرف علاقته بالجزائر حالة من التوتر، خاصة بعد تهديده لها بالدخول معها في حرب عام 2018.
أي تأثير للموقف الجزائري في ليبيا؟
وتختلف وجهات النظر حول مدى تأثير الجزائر في مجريات الأحداث في ليبيا، بين من يرى فيها القوة الإقليمية القادرة على القيام بهذا الدور وبين من يرى وجود عوائق عديدة تحول دون ذلك، وفي هذا الصدد يقول الدكتور عمر روابحي أستاذ القانون الدولي الجزائري لـ«ساسة بوست» أن «الجزائر لها من الخبرة في الوساطات الدبلوماسية والعمق في عديد المناطق الليبية بما يجعلها قادرة على التأثير في المشهد الليبي».
ويضيف الروابحي «تحظى الجزائر أيضًا بثقة مختلف الأطراف الليبية بما يجعلها قادرة على لعب أدوار إيجابية متقدمة في ليبيا»، ويرى السفير الليبي السابق محمد سالم عميش في تصريح لـ«ساسة بوست» بأن «الجزائر تعتبر من الدول التي تحقق التوازن في شمال أفريقيا، ويمكن أن تقوم بدور إيجابي تأخرت في القيام به، وذلك من خلال جمع الفرقاء الليبيين والسعي الجدي في القيام بوساطة تحقق التوافق بينهم»، ويضيف الدبلوماسي الليبي السابق «كنا نتمنى أن لا تتسرع الجزائر في دعم طرف على حساب الآخر، وأن تحافظ على الحياد الذي يمكنها من جمع الأطراف المختلفة، والوصول لحل ينهي حالة الانقسام في ليبيا».
أما الدبلوماسي التونسي السابق في ليبيا بشير الجويني فيرى أن «الخلافات بين الأطراف الليبية عميقة جدًا، ويصعب على الأطراف الخارجية بما فيها الجزائر أن تكون محددًا في حسم النزاع بينها»، ويعتبر الجويني تواصل توتر العلاقة بين الجزائر وأحد الأطراف المهمة في ليبيا، وهو خليفة حفتر، من بين العوائق أمام الدبلوماسية الجزائرية في لعب دور بالملف الليبي.
ويذكر أنه في بداية شهر يونيو (حزيران) 2021 ، وخلال محاولات خليفة حفتر السيطرة على طرابلس صرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن «الجزائر كانت على استعداد للتدخل بصفة أو بأخرى لمنع سقوط طرابلس، وأنها حين أعلنت أن طرابلس خط أحمر كانت تقصد ذلك جيدًا. الرسالة وصلت لمن يهمه الأمر».
أخيرًا تراهن الجزائر على أن يكون لها دور مؤثر في ساحة الصراع الليبية، من أجل تحقيق الاستقرار فيها، حماية لحدودها، وبحثًا عن فرص تعاون اقتصادي، بالإضافة إلى تحقيق طموحاتها في العودة قوة إقليمية مؤثرة في المنطقة، إلا أن هذه المراهنة تصطدم بعوائق عدة، أهمها: عمق الاختلافات بين الأطراف الليبية، وتعدد الأطراف الدولية المؤثرة في الشأن الليبي.
تعليقات الزوار
حسبنا الله ونعم الوكيل
وأين أموال الغاز تدهب ألى الخونة في أوربا والشعب لا يجد ما يأكله على الشعب أن يتور في وجه الجينرلات