لم تلجأ، حسب علمي حتى الآن وزارة الصحة أو أي مؤسسة رسمية أخرى إلى القيام بدراسة، أو أي شكل من أشكال الاستطلاع للتعرف بشكل دقيق عن الأسباب التي تجعل الجزائريين في مختلف مناطقهم ومواقعهم الاجتماعية وأعمارهم، يرفضون بشكل واضح التلقيح ضد فيروس كورونا كاتجاه غالب.
علما بأن اللقاح متوفر حاليا، بكميات كبيرة، عكس المرحلة الأولى لتفشي الوباء في الجزائر، بل وينتج في الجزائر بكميات تغطي الطلب الوطني وتزيد، بعد التفاهم مع الطرف الصيني لإنتاج اللقاح في معمل قسنطينة. على الرغم من ذلك فإن نسبة التلقيح في الجزائر لا تتجاوز 28% على المستوى الوطني، حسب تصريحات وزير الصحة للإعلام الوطني هذا الأسبوع، في وقت يطل فيه متحور «اوميكون الجديد» برأسه داخل البلد، وتتأكد فيه العلاقة بين الإصابة الخطيرة، بل الوفاة بعدم التلقيح، ووصلت فيه بعض المجتمعات إلى الحقنة الثالثة.
نسبة تلقيح ضعيفة تجعل الجزائر تعيش وضعا شاذا مقارنة ببلدان المنطقة المغاربية، التي سجلت نسب تلقيح مرتفعة، كما هو حال المغرب 62% وتونس 50% ومصر 50%. ناهيك من تلك النسب العالية المسجلة في دول الخليج الغنية ذات الحجم الديموغرافي الضعيف، ما يضع الجزائر في موقف وسط بين هذه الدول والحالات العربية الأخرى الفقيرة، كالسودان واليمن أو سوريا التي تعيش حالة اضطراب أمني وسياسي مزمن. وضع فرض على رئيس الجمهورية التدخل شخصيا أكثر من مرة لمطالبة المواطنين بالتلقيح، من دون نجاح، كما تظهره نسب التلقيح الضعيفة المسجلة لغاية اليوم، الرئيس الذي رفض إجبار المواطنين على التلقيح لحد الآن، حتى عندما يكون الأمر متعلقا بموظفين يفرض عليهم عملهم الاحتكاك اليومي بالمواطنين، كما هو حال موظفي البلديات وأساتذة التعليم بمختلف مراحله، بل حتى الممرضين الذين ما زال بعضهم يرفض التطعيم بحجج مبهمة من الضروري التعرف عليها بدقة من قبل الطرف الطبي والرسمي، الحاث على التلقيح، من دون نجاح حتى الآن. في مجتمع لم نلاحظ فيه حضور مواقف علنية فردية أو جماعية معادية للتلقيح، كما هو الحال في دول غربية، تعلن عن حججها وتبادر بالكشف والدفاع عنها، بل تدخل في مناوشات عنيفة مع الشرطة للدفاع عن مواقفها ذات العمق الفلسفي والسياسي، المرتبط في الغالب بقوى اجتماعية هامشية، يمكن أن تناقش ويتم الرد عليها بالحجة، وهو ما ليس حاضرا عندنا، فالرافضون للتلقيح لا يعبرون بشكل واضح عن أسباب رفضهم للتلقيح، وبشكل يجعل النقاش العلمي والمجتمعي يتطور، فكل ما هناك أنصاف جمل وكلمات متقاطعة وكلام ساكت لا يعبر عن موقفهم بوضوح، بحيث يتكفل المستمع بشرحه وإعطائه المعنى الذي يريد، كما يفعل الكثير من الصحافيين، كأن يقال إن بعض المواطنين ما زالوا تحت تأثير الوسائط الاجتماعية، وكأن محتوى الوسائط واحد من التلقيح، معاد ومتحفظ بالضرورة، من دون أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال، لماذا لم يملأ الخطاب العلمي والرسمي المؤيد للتلقيح هذه المساحات المتوفرة داخل الوسائط؟ ولماذا فشل هذا الخطاب العلمي الطبي المؤيد للقاح في خلق النقاش وكسبه داخل هذه الفضاءات؟ على الرغم من استعانته بوسائل إعلامية ثقيلة، كما هو حال التلفزيون والإذاعة، وسائل تؤكد هنا كذلك قدراتها الضعيفة على إقناع المواطن الجزائري، بعد أن تأكد هذا المواطن بعد عقود من التجربة من عدم مصداقيتها ودفاعها الغبي عن كل ما يصدر من السلطة بغثه وسمينه، وهو ما جعل المواطن يشكك في كل ما يصدر عنها، وإن تعلق الأمر بتوقعات الأحوال الجوية أو بلقاح ضد كوفيد.
خطاب رفض حتى الآن الاستعانة بالعلوم الاجتماعية التي بدت مغيبة، كما كان الحال دائما في الجزائر، على الرغم من الحملة الملاحظة في بداية انتشار الوباء التي حاولت استدعاء العلوم الاجتماعية، بمبادرة من بعض المهنيين، لفهم وتفسير سلوك الجزائري وهو يتعامل مع الوباء، سرعان ما توقفت لعدم توفر عمق مؤسساتي جدي ترتكز عليه هذه العلوم الاجتماعية، التي اقتصرت حتى الآن على محاولات فردية معزولة على شكل محاضرات افتراضية غير منتظمة، كانت في نهاية الأمر من دون تأثير جدي، ولم تعط النتائج المطلوبة، كانت في الغالب غير مبنية على بحوث ميدانية جدية ومعطيات يمكن أن تكون بداية لنقاش علمي جدي، كان يمكن أن يحصن المواطن والطبيب والمسؤول السياسي ويمنحه معطيات علمية تقيه شرور البقاء في مستوى الانطباعات والأحكام المسبقة الشخصية، علما بأن الخطاب الرسمي يرفض رفضا قاطعا أن تتم منافسته من قبل أي خطاب آخر، بما فيه خطاب العلوم الاجتماعية، انطلاقا من قناعة مكرسة لديه، انه يعرف كل شيء وليس في حاجة إلى رأي آخر، حتى إن كان مؤيدا له، خاصة بعد أن تمترس وراء خطاب العلوم الطبية المعزولة عن كل عمق اجتماعي، كما يبينه ضعف التكوين الذي يتلقاه الأطباء عندنا في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية عموما.
خطاب رسمي اعتمد في تغوله على احتكار المؤسسات الإعلامية لصالحه وحده، وإبعاد كل خطاب منافس حتى لو كان خطابا علميا، ما جعله يخلق الفراغ في نهاية الأمر، فراغا لم يعد أي طرف قادرا على ملئه حتى إن تعلق الأمر بالخطاب العلمي الرصين الداعي للتلقيح كحل جدي متفق عليه في مواجهة هذا الوباء الذي طال به الأمد بيننا بكم الكوارث التي سجلها.
خطاب رسمي لم يعرف كيف يوظف تلك الشروط الموضوعية التي كان يمكن أن يعتمد عليها في الحالة الجزائرية، على غرار التحسن الكبير في المستوى العلمي للمواطنين، الذي يقيهم موضوعيا من شرور سيطرة الخطابات غير العلمية، التي لم تكن حاضرة هذه المرة بالشكل الذي تعودنا عليه في السابق، بمناسبة نقاشات مجتمعية مشابهة، ويجعلهم أكثر انفتاحا على العصر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشباب المنفتح بقوة على وسائل الإعلام الدولية. الفشل في إقناع الجزائريين في الذهاب إلى التلقيح المتوفر، الذي يؤكد الحقيقة التي أصبحت ترى بالعين المجردة في الحالة الجزائرية، فشل رسمي في تسيير المجتمع وإقناعه، حتى إن تعلق الأمر بخطورة جائحة كورونا التي يشكو منها كل العالم وتسجل ملايين الإصابات يوميا.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات