تحوّل حادث تحطم الطائرة التي كانت تقل رئيس الأركان العامة للجيش الليبي الفريق أول ركن محمد الحداد ومرافقيه، أثناء عودتهم من زيارة رسمية إلى تركيا، إلى حدث وطني بالغ التأثير، تجاوزت أبعاده الإنسانية إلى تداعيات سياسية ومؤسساتية واسعة، عكستها كثافة ردود الفعل المحلية والدولية، وسرعة التحرك الرسمي لفتح التحقيقات، في وقت لا تزال فيه ملابسات السقوط الفنية محل متابعة دقيقة من الجانبين الليبي والتركي.
وقعت الحادثة مساء الثلاثاء عقب إقلاع طائرة خاصة من طراز “داسو فالكون 50” من مطار “إيسنبوغا” في العاصمة التركية أنقرة باتجاه طرابلس، وعلى متنها رئيس الأركان العامة وأربعة من مرافقيه. وبعد نحو أربعين دقيقة من الإقلاع، أبلغ طاقم الطائرة برج المراقبة بوجود “عطل كهربائي خطير” وطلب الهبوط الاضطراري، قبل أن ينقطع الاتصال تمامًا وتختفي الطائرة عن شاشات الرادار، ليُعثر لاحقًا على حطامها في منطقة “هايمانه” جنوب أنقرة، وهي منطقة وعرة التضاريس وبعيدة عن التجمعات السكنية.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بادر بالاتصال برئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، مقدمًا تعازيه في وفاة الفريق الحداد ومرافقيه، ومعربًا عن تضامن تركيا مع الشعب الليبي في هذا الظرف الإنساني الصعب. وأكد أردوغان أن الفقيد كان نموذجًا للانضباط والمسؤولية، وأسهم في تطوير التعاون العسكري المؤسسي مع الشركاء الدوليين، مشددًا على استمرار التنسيق بين الجهات المختصة في البلدين لمتابعة مستجدات الحادثة. كما قدم وزير الدفاع التركي يشار غولر تعازيه، فيما أعلنت أنقرة فتح تحقيق رسمي، وكلفت النيابة العامة أربعة مدعين عامين لمتابعة الملف.
على الصعيد الليبي، أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة رسميًا وفاة الفريق الحداد ومرافقيه، ووجّه بتشكيل خلية أزمة للتواصل مع الجانب التركي، كما أعلنت الحكومة الحداد الرسمي في عموم البلاد لمدة ثلاثة أيام، مع تنكيس الأعلام في مؤسسات الدولة كافة وتعليق المظاهر الاحتفالية. وأكدت الحكومة أن وفدًا رسميًا من وزارتي الدفاع والطيران المدني توجّه إلى أنقرة لمتابعة التحقيقات الفنية والقانونية بالتنسيق مع السلطات التركية.
وأصدرت الحكومة الليبية المنبثقة عن مجلس النواب بيان نعي رسمي، أكدت فيه أن المؤسسة العسكرية فقدت عددًا من قياداتها البارزة إثر الحادث، واعتبرت ما جرى مصابًا وطنيًا أليمًا، مشددة على أن الخلافات السياسية لا تلغي وحدة الحزن أمام فقدان ضباط أدوا واجبهم العسكري. ودعت الحكومة إلى كشف ملابسات الحادث بشفافية كاملة، وضمان محاسبة أي تقصير إن ثبتت أسبابه.
بدوره، أصدر اللواء المتقاعد خليفة حفتر بيان تعزية عبّر فيه عن خالص المواساة إلى أسر الضحايا وعموم الشعب الليبي، معتبرًا أن المؤسسة العسكرية فقدت أحد ضباطها الذين أدوا مهامهم بكل تفانٍ ومسؤولية. كما تقدمت “القيادة العامة” بالتعازي إلى اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في فقدان أحد أعضائها البارزين، في إشارة إلى الدور الذي لعبه الفريق الحداد في مسار وقف إطلاق النار وتثبيت الترتيبات الأمنية.
من جانبه، نعى المجلس الأعلى للدولة الفريق الحداد ومرافقيه في بيان رسمي، معربًا عن حزنه العميق للحادثة، ومؤكدًا أن الطائرة تحطمت بعد دقائق من إقلاعها من مطار “إيسنبوغا” أثناء توجهها إلى طرابلس. واعتبر المجلس أن ما جرى خسارة كبيرة للمؤسسة العسكرية وللوطن، داعيًا إلى إجراء تحقيق شامل ومستقل لكشف الأسباب الدقيقة للسقوط، ومشددًا على ضرورة تحييد هذه الفاجعة عن أي تجاذبات سياسية.
دوليًا، توالت بيانات التعزية، حيث عبّرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن حزنها العميق، ووصفت الحادث بالخسارة الجسيمة، مشيدة بدور الفريق الحداد في دعم توحيد المؤسسات العسكرية والدفع باتجاه السلام والاستقرار. كما قدمت الولايات المتحدة وهولندا وفرنسا وكندا وبريطانيا واليابان ودول أخرى تعازيها الرسمية، مؤكدة تضامنها مع ليبيا، ومشيرة إلى الدور المهني الذي لعبه الحداد في تعزيز التعاون العسكري الدولي.
وفي إطار التحقيقات، أعلن وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا العثور على مسجل صوت قمرة القيادة والصندوق الأسود للطائرة، مؤكدًا انتشال الجثامين ونقلها إلى الطب العدلي للتأكد من الهويات. وأوضح أن الطائرة كانت مسجلة في دولة مالطا وتشغلها شركة طيران خاصة، وأن التحقيق سيشمل الجوانب التقنية كافة، بما في ذلك أنظمة الكهرباء وسجلات الصيانة.
وتُضفي خلفيات الحادثة حساسية إضافية على المشهد، إذ جاءت عقب زيارة رسمية خُصصت لبحث التعاون العسكري بين ليبيا وتركيا، ما أعاد إلى الواجهة أسئلة أوسع حول سلامة الطيران المستخدم في المهمات الرسمية، ومعايير الرقابة والصيانة. و
بينما تتواصل التحقيقات المشتركة، يبقى الإجماع المحلي والدولي منصبًا على ضرورة الشفافية الكاملة، في وقت خلّفت فيه الحادثة فراغًا مؤلمًا في قيادة المؤسسة العسكرية الليبية، في مرحلة سياسية وأمنية شديدة الدقة.

تعليقات الزوار
لا تعليقات