لماذا يشعر بعض الفرنسيين، على الأقل، بأنهم قد تعرضوا إلى ما وصفها وزير داخليتهم بمحاولة إذلال من جانب الجزائر؟ هل لأن الأخيرة ولكونها «لا تقبل الابتزاز والوصاية والرضوخ لأي جهة مهما كانت قوتها»، كما قالت مجلة الجيش الجزائري في عددها الأخير، أرادت أن تثبت أنها سيدة قرارها؟ أم لأن فرنسا اختارت، وبالنفخ في رماد أزمة مصطنعة، أن ترمي أحجار نردها الافريقي هذه المرة في ذلك البلد المغاربي بالذات؟
في كل الأحوال فقد فضل الجزائريون إعادة الكرة إلى المرمى المقابل حين اعتبروا، ومن خلال بيان أصدرته خارجيتهم السبت الماضي، أنه «وعلى عكس ما يدعيه اليمين المتطرف الفرنسي ووكلاؤه والناطقون باسمه، فإن الجزائر لم تنخرط بأي حال من الأحوال في منطق التصعيد، أو المزايدة أو الإذلال، بل على عكس ذلك تماما، فإن اليمين المتطرف وممثليه هم الذين يريدون أن يفرضوا على العلاقات الجزائرية الفرنسية ضغائنهم المليئة بالوعيد والتهديد، وهي الضغائن التي يفصحون عنها علنا، ودون أدنى تحفظ أو قيد»، في إشارة ربما إلى التصريحات الإعلامية لبعض الشخصيات الفرنسية التي دعت إلى تسليط عقوبات على الجزائر. لكنهم وبالموازاة مع ذلك صوبوا أنظارهم وفي عز أزمتهم مع فرنسا نحو قارة بدأت تتحمس أكثر فأكثر لفكرة الخروج عن النفوذ الفرنسي، متطلعين إلى تحقيق نوع من التقارب، وربما حتى التحالف إن أمكنهم ذلك بالطبع مع من صاروا خصوما جددا للوجود الفرنسي في افريقيا.
وهنا لم يكن من قبيل الصدفة أن قرر الرئيس الجزائري، الجمعة الماضي، بعث رسالة إلى نظيره التشادي، ورغم أن مضمونها بقي إلى الآن مجهولا ولم ترشح معلومات كثيرة عما يمكن أن يكون الدافع من ورائها، عدا ما ذكرته الخارجية الجزائرية من أنه تم أثناء اللقاء الذي جرى بين المبعوث الخاص للرئيس عبد المجيد تبون والرئيس إدريس ديبي، إبلاغ التحيات الأخوية لرئيس الجمهورية لنظيره التشادي، واستعداده للعمل معا مع أخيه لتعزيز علاقات التعاون بين البلدين مشيرة إلى أن الرئيس التشادي عبّر من جانبه عن «تطلعه لمواصلة العمل من أجل توطيد علاقات الأخوة والتعاون والتضامن بين البلدين»، ومبرزة في الأخير أن اللقاء شكّل فرصة لاستعراض العلاقات الثنائية ودراسة سبل تعزيزها، وكذا تعزيز التنسيق البيني على المستوى الإقليمي والدولي، حسبما جاء في بيانها، إلا أن محاولة الإيحاء وكأن الأمر يقتصر فقط على مناقشة مسائل تتعلق بالتعاون الثنائي بين البلدين، والحرص على عدم الإشارة إلى السياق العام الذي وجهت فيه تلك الرسالة قد يدل على الرغبة في التهدئة مع الطرف الفرنسي.
وعلى أي حال فمن الواضح جدا انه سيكون من الصعب أن تفصل تلك الرسالة عن الظرف الذي كتبت فيه، وأن لا تكون على صلة وثيقة بالوضع المتدهور الذي تعرفه علاقة البلدين الافريقيين بالمستعمر الفرنسي السابق. والتوقيت يحمل هنا وبلا شك أكثر من دلالة، فالمبعوث الجزائري جاء إلى نجامينا، بعد مضي يومين فقط على صد القوات التشادية لهجوم مسلح على القصر الرئاسي، لم يعلن رسميا عن الجهة التي تقف خلفه، وسبقه نوع من التصعيد اللفظي بين تشاد وفرنسا بعد تصريحات صادمة أدلى بها الرئيس الفرنسي، خلال الندوة السنوية للسفراء، وقال فيها إن «فرنسا كانت على حق في التدخل عسكريا في منطقة الساحل ضد الإرهاب منذ عام 2013، لكن القادة الافارقة نسوا أن يقولوا شكرا وألا أحد منهم يستطيع إدارة دولة ذات سيادة دون تدخل»، تبعها رد من الرئيس التشادي جاء فيه أن نظيره الفرنسي «أخطأ في الحقبة الزمنية»، في إشارة إلى أن زمن الهيمنة الاستعمارية الفرنسية على القارة الافريقية قد ولى وانقضى. وقد يقول قائل وما الرابط بين التوتر القائم بين بعض الدول الافريقية وفرنسا، والتصعيد الفرنسي الجزائري الأخير؟ وهل إن الأزمة بين باريس والجزائر هي جزء من حالة التصدع العام في العلاقات الفرنسية الافريقية؟ أم أنها تكتسي طابعا ظرفيا وخاصا؟
لقد بدأت كرة الثلج بين العاصمتين بالتدحرج بسرعة غير متوقعة، بعد أن وصل التوتر بينهما إلى درجات عالية، لكن شيئا فشيئا توارت ربما الأسباب الأصلية والعميقة، التي كانت تقف وراء خلافهما، وتم تقديم الأزمة إعلاميا وكأنها تتعلق فقط بمصير شخصين حاملين لجنسيتين مزدوجتين، أحدهما كاتب ثمانيني هو بوعلام صلصال، الذي أوقفته السلطات في الجزائر منتصف نوفمبر الماضي بمجرد حلوله بمطار هواري بومدين قادما من باريس، ووجهت له، وحسبما أشارت إلى ذلك عدة مصادر إعلامية تهم ارتكاب فعل إرهابي أو تخريبي، بعد ان انزعجت السلطات الجزائرية، وفق ما ذكرته صحيفة «لوموند» الفرنسية من تصريحات أدلى بها إلى موقع «فرونتيير» وتبنى فيها فكرة انتزاع أراض مغربية في ظل الاستعمار الفرنسي لصالح الجزائر. والآخر خمسيني ينشط على مواقع التواصل الاجتماعي واسمه بوعلام أيضا، أوقفته السلطات الفرنسية بعد نشره مقطع فيديو، بتهمة التحريض على الإرهاب والتحريض على ارتكاب أعمال عنف في فرنسا ضد معارضين للنظام الجزائري، ورحلته الخميس الماضي إلى الجزائر لكنه أعيد في مساء اليوم نفسه إلى باريس، بعد أن رفضت السلطات الجزائرية استقباله على أراضيها.
والسؤال هو ما الذي جعل من إيقاف رجلين في باريس والجزائر يتحول إلى اختبار صعب لعلاقة لم تتخلص تماما من رواسب وهواجس الماضي وعاشت على مرّ فترات طويلة على وقع حالات اضطراب وانعدام ثقة مستمرة بين الطرفين؟ ربما سيقول البعض إن الامر في غاية البساطة فلولا الاعتراف الفرنسي الصيف الماضي بمغربية الصحراء، لما أمكن لاي خلافات بين العاصمتين أن تنمو وتكبر حتى تصل إلى ما وصلته الان. ولكن هل يمكن أن يضع الجزائريون مصالحهم مع بلد مثل فرنسا في كفة، ومصير منظمة تطالب بالسيادة على أراض لا تعنيهم من الناحية الرسمية في الأخرى؟ إن تلك تبدو وبلا شك مجازفة خطيرة، ليس فقط لأنه سيكون من الصعب جدا على فرنسا ان تتراجع عن ذلك الاعتراف ولكن أيضا، لأن إطالة أمد الأزمة وتفاقمها قد يدفعان بأوروبا في مرحلة ما إلى الدخول على خط المواجهة مع الجزائر، إضافة إلى أن التطورات الإقليمية والدولية التي يعرفها ملف الصحراء لا تسير في الظرف الحالي، على الأقل، بالاتجاه الذي يريده البوليساريو. يبقى ما الذي جعل فرنسا تضخم الأزمة وتحاول تأجيج المشاعر القومية في البلدين؟ هل لأنها تسعى فعلا إلى الإطاحة بالنظام الجزائري الحالي؟ أم لأنها تريد وعلى العكس تقويته ومنحه شرعية جديدة؟ سيكون من الغباء الاعتقاد بأن الضغوط الفرنسية ستكون قادرة وحدها على إحراز أي تغيير، لكن إن كان الهدف منها هو أن تخرج العلاقات بين البلدين من قالب ليعاد إدخالها في آخر، فإن السؤال هو هل سيرضى الجزائريون في تلك الحالة بالنموذج الذي قد يفكر به الفرنسيون؟
نزار بولحية
تعليقات الزوار
لا تعليقات