يُضرب طلبة كليات الطب في الجزائر عن الدراسة، منذ منتصف أكتوبر الماضي، ما يعني أن هذا الإضراب قد دخل شهره الثالث، مما يصعّب من إمكانية تعويض الدروس التي لم تضمن، حتى إن كنا متفائلين وافترضنا العودة القريبة للطلبة لقاعات الدروس، عند فئة طلابية اشتهرت بإضراباتها الطويلة، كما كان الأمر في بداية سنة 2018، حين نظمت مسيرة في العاصمة بالقرب من مستشفى مصطفى باشا، تم الاعتداء عليها من قبل رجال الأمن، ما تسبب في جروح الكثير من الطلبة – الأطباء، الذين هاجرت أعداد كبيرة منهم نحو أوروبا – فرنسا تحديدا – بعد هذه المواجهة التي لم يكونوا ينتظرونها من رجال الأمن، أمام المواطنين والكثير من مرضاهم، تكون قد أثرت سلبا على نفسياتهم المتدهورة أصلا، بعد ظهور علامات تعفن على إضرابهم الذي طال، من دون أن يجد الحلول ولا المساندة.. هم الذين تعودوا مع الوقت على الاعتداءات من قبل عائلات المرضى وأصدقائهم، في مكان العمل، تحولت إلى روتين يومي، رغم تشديد العقوبات على المعتدين من قبل المشرع الجزائري، كمؤشر على تدهور المكانة الرمزية للطبيب في المجتمع الجزائري. قد لا يكون بعيدا عن التضخم في أعداد طلبة الطب، وسوء ظروف تكوينهم وعملهم، في مجتمع تريفت فيه الجامعة وتأنثت بشكل ملحوظ.
إضراب الأطباء والممرضات – نعم بصيغة المؤنث، لأن الواقع على الأرض يقول ذلك ـ الذي تحول إلى ظاهرة اجتماعية معروفة في مختلف دول العالم الغربي المتطورة، عوضت إضرابات عمال الميكانيك والحديد والصلب التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، نظرا للتمركز العددي الكبير الذي يميز الأطباء والممرضات في كل دول العالم، في وقتنا الحالي، جعلهم يتحولون إلى قوة عمل ضخمة، تحتل مكانا حساسا في أي مجتمع، كما تبينه حالة مستشفياتنا الكبيرة – مصطفى باشا بالعاصمة كمثال.
ورغم انني لن أركز هذا الأسبوع على تلك الأبعاد المتعلقة بالمستويات النقابية، الميكرو التي تبقى مهمة، للكلام أكثر عن تلك الأبعاد المرتبطة بالمستوى الماكرو، في علاقتها بالمستويات السوسيو- سياسية، للحديث بدل ذلك عن فشل النظام السياسي الوطني في إدماج الفئات الوسطى التي يمثلها أحسن تمثيل الأطباء بمختلف فئاتهم، بعد أن تبين لنا في أكثر من حالة أن الجزائر تعيش أزمة إدماج اجتماعي – سياسي وتسيير لفئاتها الوسطى، لمّح لها الرئيس تبون أكثر من مرة في خطاباته وبرامجه الانتخابية وهو يترشح مرتين، من دون الوصول إلى تحقيق نتائج مؤكدة حتى الآن. كما عبرت عنها معدلات هجرة الأدمغة التي تعاني منها الجزائر في أكثر من تخصص علمي، مسّت الطبيب والمهندس والباحث في ميدان التكنولوجيا، الذي التحق به الروائي والمخرج السينمائي، هي التي تفسر حالة التصحر الثقافي الذي تعيشه المدينة الجزائرية جعلتها غير قادرة على التحول إلى فضاء مفتوح على العالم، كما هو حال جيراننا في مدن شمال الضفة الشمالية للمتوسط وحتى جنوبها القريب منا، في الدول المغاربية الذي تعيش فئاتها الوسطى عموما أحسن من مثيلاتها في الجزائر، على مستوى الدخل المالي ونوعية الحياة الأخرى التي يمكن قياسها بالسكن والترفيه الثقافي، عكس الفئات الشعبية التي يؤكد الكثير من المؤشرات أن وضعها أحسن في الجزائر.
أزمة إدماج الفئات الوسطى التي لا تظهر في مكان العمل والدخل المالي وظروف العمل فقط، بل تظهر في نوعية السكن المقترحة على هذه الفئات والترفيه والحياة الثقافية، كما تظهر في مجال الحريات السياسية المنعدمة، وغيرها من الأبعاد التي تمنحها هذه الفئات أهمية قصوى وهي تقارن حياتها، ليس مع مدن داخلية داخل الجزائر، بل مدن قريبة، على الضفة الشمالية للمتوسط والعالم، الذي أصبحت تقارن حياتها بما يوفره لأبنائه من شروط العيش، ليكون الانفتاح الذي تعيشه هذه الفئات وبالا عليها بدل أن يكون لصالحها. وضع جعل من الصعب تلبية مطالب إضراب طلبة الطب التي كان من بينها المصادقة على الشهادات العلمية الممنوحة لهم، في سوق عمل دولية لا يراعون فيها الحدود السياسية، بل يتعاملون معها كسوق واحدة. بعد القرار الغبي الذي اتخذته السلطات الجزائرية بعدم المصادقة على شهادتهم العلمية، كوسيلة للحد من هجرتهم نحو الخارج، رغم التنازل لاحقا على هذا القرار التعسفي لم يتوقف إضراب طلبة الطب، نتيجة صعوبة تلبية المطالب الأخرى التي تبدو تعجيزية بالنسبة لبيروقراطية وزارة التعليم العالي، التي لا تعرف كيف تتعامل مع هذه المطالب التي تعيد النظر في تسييرها للشأن الجامعي. هي التي تعودت على مطالب توزيع الأجور وسكنات عدل. فقد كان من مطالب هذا الإضراب المستمر لحد الساعة، التوقف عن فتح ملحقات جامعية لتعليم الطب في مدن داخلية صغيرة ومتوسطة، يعتقد الطلبة الأطباء المضربون انها لا تتوفر على الحد الأدنى من الشروط البيداغوجية المقبولة، الضامنة لنوعية تعليم جامعي معقول، على غرار توفر مستشفى جامعي يكون مجالا للتدريب المهني. مطالب تؤكد ما قلناه حول النظرة الشمولية لمطالب هذا الاضراب التي تتجاوز مكان العمل وشروط إنجازها المادية الصرفة، فالطالب هنا ينظر إلى مستقبله المهني وهو يرفض أن تغرقه السياسة التعليمية المتبعة في ممارسات كمية، تفرغه من كل تميز، تجعل وضعية الطبيب لا تختلف كثيرا عن الممرض، وهو يقارن نفسه داخل سوق عمل دولية، يهدف الدخول للتنافس فيها، وليست سوقا وطنية تم إشباعها، بدأت تعرف معدلات بطالة وسوء استعمال عالية، رغم النجاحات التي حققها التعليم الطبي في الجزائر تاريخيا وهو ينتج كفاءات مهنية مشهود لها في الداخل والخارج.
كما أكدته تلك المطالب المتعلقة بتحسين ظروف التحصيل العلمي، التي كانت حاضرة بقوة هذه المرة، فشلت بيروقراطية وزارتي التعليم العالي والصحة في التعامل الإيجابي معها، نتيجة التسيير المجزأ لهذا القطاع التي تقوم به أكثر من وزارة، من دون وجود هيئات للتنسيق والعمل المشترك. زيادة على الأبعاد المتعلقة بالثقافة السياسية السائدة وطنيا، المعادية لهذه المطالب التي تشم منها ريحة رؤية نخبوية، ما زالت غير مرحب بها في الحالة الجزائرية، عكس ما هو حاصل في بلدان أخرى تأثرت فيها مكانة الطبيب سلبا، من دون أن تتدهور إلى المستوى المتدني الذي وصلته في الجزائر. ما زالت المؤسسات البحثية ومن ورائها الإعلام الوطني بمختلف مؤسساته يتعامى عنها ويتعامل معها كظاهرة سياسية – أمنية مشكوك فيها، يتم التحريض عليها من الخارج، كما أوحت بذلك بعض المقاربات الصحافية غير المهنية، بمناسبة هذا الإضراب، الذي ما زالت تعيشه كليات الطب في الجزائر، وهو يصل مرحلة تعفن عالية لن تكون في صالح أي طرف.
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات