أخبار عاجلة

نشر عناصر «الفيلق الأفريقي» في ليبيا قد يغير المعطيات الاستراتيجية في المنطقة

أصيبت جهود واشنطن لمكافحة الإرهاب، بانتكاسة جديدة، بعد اضطرارها لسحب قرابة ألف جندي، من القوات القتالية الأمريكية من النيجر. وهذه علامة على تراجع حضور أمريكا في غرب أفريقيا، على الرغم من وجود اتفاقات تعاون عسكري مع العديد من حكوماتها. وفي هذا الإطار تعمل القوات الأمريكية تحت بندي «مكافحة الجماعات الإرهابية» و«مواجهة التوسُع الروسي في المنطقة» الممتدة من الصومال شرقا إلى النيجر وموريتانيا غربا. وفي ظل هذا التحالف، اعتادت القيادة الأمريكية لأفريقيا المعروفة بـ«أفريكوم» على قيادة مناورات سنوية تشارك فيها دول المنطقة.
عملية سحب القوات من النيجر كانت مقررة منذ نيسان/ابريل الماضي، حين أعلنت واشنطن أنها اتخذت قرارا في هذا المعنى. وأكدت أن الانسحاب من النيجر سيكون «مسؤولا ومُنظما» لكن مسؤولين من وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين، أجروا أخيرا محادثات مع أعضاء المجلس العسكري الحاكم في نيامي، في شأن شروط الانسحاب، التي كانت ستشمل الإبقاء على بعض القوات الأمريكية في النيجر. غير أن قرار السلطات الأمريكية سحب الألف مقاتل، يدل على أن تلك المحادثات لم تُسفر عن نتائج مرضية لواشنطن، ما يعني القضاء على أي آمال بالتوصل إلى اتفاق، في شأن الإبقاء على قوات على الأرض. والأرجح أن ذلك الرفض القاطع، سيحمل واشنطن على التوجه إلى حلفاء آخرين في المنطقة، لتقديم الطلب نفسه.

ست دول

كانت النيجر، قبل أن يُطيح انقلاب عسكري بحكومتها المنتخبة، في تموز/يوليو الماضي، في قلب الحرب الأمريكية على الإرهاب، سواء بفضل حدودها المُطلة على ست دول، من دول منطقة الساحل والصحراء، وهو المربع الذي تتحرك في رماله الجماعات المسلحة، أو بالاعتماد على قاعدة الطائرات المُسيرة، التي أنشأتها أمريكا في مدينة أغاديس.
وبعد الرد النيجري الرافض الإبقاء على بعض القوات الأمريكية في النيجر، تيقن الجانب الأمريكي من أن صفحة التعاون مع دول المنطقة في مكافحة الإرهاب، قد طُويت، وأن المجال صار مؤاتيا، أكثر من أي وقت مضى، للتوغل الروسي فيها، وخاصة بعد صعود العسكر إلى سدة الحكم في كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر.
على هذا الأساس وضعت واشنطن خطة لإعادة نشر قواتها في تمركزات أخرى بالمنطقة، على نحو يجعلها قادرة على تنفيذ عملياتها وضرباتها بالنجاعة نفسها مستقبلا. في المقابل يبدو أن الروس ماضين في استراتجيتهم الأفريقية، وهم يقومون بترتيبات في ليبيا، استعدادا لنشر عناصر «الفيلق الأفريقي» في دولة من دول الصحراء لم يُكشف عن اسمها. وترمي هذه العملية إلى ملء الفراغ الاستراتيجي الناتج عن سحب القوات الأمريكية، وقبلها القوات الفرنسية من هذا البلد. وبات معلوما أن قوات «الفيلق الأفريقي» مُرتبطة مباشرة بالرئيس فلاديمير بوتين، بعد مقتل مؤسسها وقائدها الأول يفغيني بريكوجين. والمُلاحظ أن اهتمام القيادة الروسية بالملف الليبي زاد في الفترة الأخيرة، خاصة من خلال استقبال المسؤولين الليبيين، الذين يزورون موسكو. وقد تبلور من خلال تلك الاجتماعات، نوع من التوافق بين الموقفين على أهمية إجراء الانتخابات في ليبيا، حسب ما ورد في تصريحات رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالا، في ختام زيارة رسمية لموسكو. لكن هذا لا يكفي لدفع عجلة التسوية السلمية للأزمة إلى الأمام.

دور لتركيا

أما اللاعب التركي، فهو يسير على خُطى الروس والأمريكيين، سعيا للعب دور أساسي مستقبلا في ليبيا والمنطقة عموما. وتعتمد أنقرة على علاقاتها المتينة مع الزعماء الليبيين، منذ مساهمتها في صد الهجوم عن العاصمة طرابلس عام 2019 في مواجهة قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. والملاحظ أن المؤسسة العسكرية التركية الموازية، والتي تُعرف بـ «سادات» مُرتبطة، هي الأخرى مباشرة، بالرئيس رجب طيب اردوغان. ويقود هذه القوات العسكرية الخاصة مليح تانريفردي، نجل رجل الأعمال ومؤسس المجموعة عدنان تانريفردي، أحد أصدقاء اردوغان. ولوحظ أيضا أن القيادة التركية، تعتمد بشكل متزايد، على تلك المجموعة العسكرية الخاصة، من أجل التمدد نحو النيجر ومالي، في إطار خطة تشمل أيضا ليبيا.
هذا المخطط سيقضي، حسب الخبراء، على حصاد سنوات من جهود أمريكا لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. ومن المفيد التذكير هنا بأن جمهورية النيجر كانت حجر الركن في الاستراتيجيا الأمريكية لمكافحة الإرهاب، بالاعتماد على قاعدة للطائرات المسيرة. من هنا صارت واشنطن مضطرة لوضع خطة من أجل إعادة نشر قواتها في تمركزات أخرى بالمنطقة، بما يجعلها قادرة على تنفيذ عملياتها بالسرعة المأمولة.
لكن منذ الانقلاب العسكري، بدأت قوات روسية، بينها أعضاء سابقون في مجموعة «فاغنر» تتدفق على النيجر، بينما يتمركز ما بين 60 و100 مقاتل روسي في قاعدة 101 الجوية، التي تؤوي كذلك قوات أمريكية قرب العاصمة نيامي. وكان نشاط المرتزقة الروس في ليبيا توقف مؤقتا، متأثرا بتغيير الرؤية السياسية الروسية، بعد التخلص من بريكوجين. إلا أن ذلك التوقف المؤقت، لم يمنع السلطات في شرق ليبيا، من التوقيع على اتفاق عسكري جديد مع موسكو.
ورجحت مصادر اعتمدت عليها دراسة المعهد البولندي، أن الاتفاق يشمل تمركز السفن الروسية في ميناء طبرق عبر قاعدة تجري توسعتها حاليا. كما رجحت أن يكون حفتر طلب من الروس الحصول على أنظمة دفاع جوي متطورة، مع إجراء تدريب للطيارين والقوات الخاصة. ويُقدر عدد العسكريين الروس في ليبيا خلال العام الجاري، بنحو 800 مقاتل، لم يظهر لهم أي نشاط مباشر.
لكن بحسب تحقيق أجراه موقع فرنسي، سُجلت عملية إعادة انتشار مكثفة للعناصر المرتبطة بالجيش الروسي في ليبيا، خلال الأشهر القليلة الأخيرة. ونتيجة لذلك وصل عددهم إلى 1800 عنصر في أواخر نيسان/ابريل وأوائل أيار/مايو. وأكد موقع «كل العيون على فاغنر» الفرنسي، على أهمية ليبيا لروسيا، خاصة قاعدة الجفرة الجوية، بعدما غدت مركزا لوجستيا آخذا في النمو. ورجح الموقع أن تكون «الجفرة» قادرة على تأمين نقل قوات الفيلق الأفريقي إلى دول جنوب الصحراء الكبرى. وفي العلوم العسكرية، تُعتبر سرعة الحركة وإمكانية الوصول إلى مناطق قصية في القارة الأفريقية، إحدى الأولويات في خطة الانتشار الروسية.

عودة إلى الحرب؟

يدور سباق التسلح هذا بينما يتعثر الحل السياسي للأزمة الليبية، ما يجعل سيناريو العودة إلى الحرب احتمالا قائما بجد. وأظهرت الدراسة الصادرة عن «المعهد البولندي للسياسة الخارجية» في هذا المضمار، استمرار الاستعانة بالمرتزقة السوريين في شرق ليبيا أيضا. كما أُفيد أنه تم إنشاء مركز تدريب يقوده أربعة من المدربين العسكريين الروس قرب بنغازي.
ولا يُخفي الأمريكيون، الذين يتابعون الوضع الليبي عن كثب، انزعاجهم من التمدد الروسي عبر ليبيا، ووجود تسهيلات خاصة في القاعدة البحرية طبرق. ومن الواضح أن حفتر هو من فتح الباب لمنح تلك التسهيلات، بعد زيارته موسكو في اواخر أيلول/سبتمبر العام الماضي، والتي استقبله خلالها الرئيس فلاديمير بوتين للمرة الأولى. وأظهر تسجيل مرئي من ميناء الحريقة بطبرق، سفينة للقوات البحرية الروسية تُنزل شاحنات وأسلحة ومعدات عسكرية. وكان المشرف على إنزالها قواتٌ روسية مستقرة في ذلك الميناء. وفي خط مُواز تتدفق إمدادات عسكرية روسية، على ميناء طبرق. وجرت إعادة نشر بعض المقاتلين من الفيلق الأفريقي، الذين وصلوا حديثاً إلى ليبيا، في النيجر.
وأظهرت دراسة المركز البولندي أن نشاط المرتزقة الروس في ليبيا توقف مؤقتا، متأثرا بتغيير الرؤية السياسية الروسية. إلا أن تلك الوقفة لم تمنع السلطات في شرق ليبيا، من التوقيع على اتفاق عسكري جديد مع موسكو في ايلول/سبتمبر من العام الماضي. وعبر الأمريكيون عن معارضتهم للاتفاق العسكري الجديد بين روسيا وحفتر، وهو ما قالته صراحة السفيرة الأمريكية الجديدة لدى ليبيا، عندما اتهمت موسكو بالسعي لزعزعة استقرار الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي.

أفريقيا هدفا

ويشير الخبراء إلى أهمية ليبيا لروسيا، خاصة قاعدة الجفرة الجوية، بعدما غدت مركزا لوجستيا آخذا في النمو، مُتوقعين أن تكون تلك القاعدة منطلقا لنقل قوات الفيلق الأفريقي إلى دول جنوب الصحراء الكبرى. وتُعتبر سرعة الحركة وإمكانية الوصول إلى مناطق قصية في القارة الأفريقية إحدى الأولويات في خطة الانتشار تلك. وفي إطار هذه العملية تمت إعادة نشر بعض المقاتلين من الفيلق الأفريقي، الذين وصلوا حديثاً إلى ليبيا، في النيجر. أما المرتزقة السوريون فقد وزعوا بمعداتهم العسكرية على عشرة مواقع في الأقل شرق ليبيا. ويفرض هذا الوضع أسئلة عدة، عن الحاجة إلى تخزين كل هذا السلاح والعتاد من جميع الأطراف. كما يطرح أسئلة أخرى أيضا عن الدولة، أو الدول التي دفعت فواتير تلك الصفقات الضخمة. واستطرادا من المؤكد أن لدى كل قوة إقليمية أو دولية معنية بالملف الليبي حليفٌ محلي، ما يستوجب بادئ ذي بدء وقف توريد السلاح، وإبعاد السلاح الثقيل إلى خارج المدن. ومن أسباب الخوف على المستقبل أن هذه الاستعدادات العسكرية تتزامن مع تعثر الحوارات السياسية الليبية الليبية، التي يُشبه بعضها البعض منذ العام 2014. وفي هذا المشهد القابل للانفجار يتأكد، يوما بعد آخر، أن ليبيا تعيش انعطافا كبيرا، فإما توافقٌ لن يأتي إلا بصعوبات وتضحيات جمة، وإما حرب جديدة، يُعدُ لها كل طرف، ما استطاع من قوة.

رشيد خشانة

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات