أخبار عاجلة

فُرصٌ ضئيلة للتقدم على مسار الحل السياسي في ليبيا

تشهد ليبيا حاليا مقايضات ومساومات بين الفرقاء السياسيين، على أبواب تشكيل حكومة جديدة مصغرة، تقتصر مهمتها المركزية على الإعداد لاستحقاق انتخابي أو لاستفتاء عام على دستور جديد. وبدأ يتبلور اتفاقٌ بين الغرماء الثلاثة عقيلة صالح وخالد المشري وفتحي باشاغا، برعاية تركية، على تسمية مسؤولين على رأس المؤسسات السيادية الرقابية السبع. وتمثلت الخطوة الأولى لتنفيذ الاتفاق، بإحالة مجلس النواب ملفات المرشحين لتلك المناصب، إلى المجلس الأعلى للدولة، بواقع سبعة مرشحين لكل منصب، ليختار منها ثلاثة قبل نهاية العام الجاري. وتشكل هذه المفاهمات امتدادا لمخرجات الجولة الثانية من الحوار السياسي، الذي احتضنته مدينة بوزنيقة المغربية في ديسمبر 2015 بين لجنتين من مجلسي النواب والدولة. وجرى خلال تلك الجولة الاتفاق على أسماء المسؤولين المرشحين لقيادة المؤسسات السيادية السبع، وهي مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار وديوان المحاسبة والهيئة العليا للرقابة الإدارية والمفوضية العليا للانتخابات، بالإضافة إلى منصب النائب العام.
غير أن الاتفاق بين رئيسي مجلسي النواب والدولة جوبه بالرفض من أطراف عدة، من ذلك تعليقُ عضو المجلس الأعلى للدولة محمد امعزب، الذي اعتبر أن رئيسي المجلسين يسعيان للوصول إلى اتفاق بشأن السلطة التنفيذية والمناصب السيادية، بعيدا عن موافقة أعضاء المجلسين. لا بل أكد امعزب، أن هناك توجها داخل مجلس الدولة يدافع على ضرورة ألا يسبق وضعُ القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية إجراء أي تغييرات في السلطة التنفيذية والمناصب السيادية. وأكد امعزب أن لدى عقيلة صالح رغبة شديدة في تغيير محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة. ولديه خطة في هذا المجال، إذ أنه يخشى، مع استمرار الوضع الراهن، ألا تكون هناك انتخابات ولا استفتاء على الدستور أصلا، مؤكدا أن الحل الأسهل هو انتخابات برلمانية، يتولى إثرها البرلمان الجديد معالجة الدستور، الذي تتم على قاعدته الانتخابات الرئاسية. وبين امعزب أن لقاء عقيلة-المشري مجرد توافق على خط عريض، من دون أي إنجاز أو مخرجات، مستبعدا أن تكون هناك نتائج لمثل هذه اللقاءات.
مع ذلك يجوز القول إن الغرماء الثلاثة أنهوا خصومتهم (مؤقتا؟) وأغمدوا سيوف الحرب، بعدما مكنت اجتماعات صالح والمشري في المغرب من التوصل إلى اتفاق على لوائح المرشحين لتولي أكبر المناصب في الدولة. وأكد مفتاح الحرير رئيس مجلس التخطيط الوطني، الذي يرأس أيضا «اللجنة العليا لتوحيد المؤسسات» صحة المعلومات التي مفادها أن المؤسسات السيادية في طريقها إلى التوحيد. وكانت فعاليات برنامج عمل «اللجنة العليا لتوحيد المؤسسات» انطلقت في تونس، برئاسة الحرير، وبالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ليبيا ومعهد الولايات المتحدة الأمريكية للسلام. وبعدما اتفق عقيلة والمشري على منصبين لم يُكشف عنهما، قررا استكمال المشاورات للاتفاق على باقي المناصب، ومن ثم تشكيل حكومة موحدة قبل كانون الثاني/يناير المقبل، وإن بدا هذا الطرح غير واقعي.
بالمقابل رأى المشري أن الحل للخلاف حول عدم جواز ترشُح مزدوجي الجنسية للرئاسة، الوارد في مشروع الدستور، يتمثل بنقل الخلاف إلى القانون الانتخابي، مع تشكيل حكومة جديدة، وهو مُقترحٌ لم يرض به المجلس الأعلى للدولة، فيما دعا مُقترحٌ آخرُ إلى عرض بعض النقاط الخلافية على الاستفتاء المباشر، على أن تكون أحكامه مُلزمة للجميع، مؤكدا أنه لو تم الاستفتاء في يناير/كانون الثاني أو شباط/فبراير 2023 لأمكن، بعد ذلك، إجراء الانتخابات في آب/اغسطس حسب توقعاته. ويتمسك المشري بتنحية الصديق الكبير بعد 11 عاما قضاها على رأس مصرف ليبيا المركزي، خاصة في ظل وجود خلافات بينه وبين أعضاء مجلس إدارة المصرف، محورها تغيير سعر الصرف. واعتبر المشري أن «الذهاب الآن إلى تغيير جميع المناصب السيادية أمرٌ حتميٌ، ولا رجوع عنه». وفي خلفيات هذا الموقف نجد أن المجموعة التي ينتمي لها المشري لا تغفر للكبير أنه مُقرب من الإمارات.
ما هو السيناريو المنتظر في الأسابيع المقبلة؟ في البدء أقر رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري بأن سيناريو تشكيل حكومة ثالثة واردٌ، مع أن رئيس الحكومة الحالي يرفض رفضا باتا تسليم المفاتيح إلى أي شخص غير منتخب، في إطار انتخابات حرة وشفافة. وأكد المشري أنه تم الاتفاق مع رئيس مجلس النواب، على تشكيل حكومة ثالثة، قد يترأسها المشري نفسه، إلى جانب مجلس رئاسي يقوده صالح. كما أكد أيضا أن هناك مشاورات جارية مع البعثة الأممية وأطراف دولية وصفها بـ«المهمة» حول هذا المسار. غير أن الانطباع العام لدى المتابعين للشأن الليبي أن الأطراف الفاعلة غير راغبة بالتوافق على قاعدة دستورية تجري على أساسها الانتخابات، لكونها ضد الانتخابات أصلا.

أمريكا-تركيا

من الواضح في هذا السياق أن تركيا بذلت جهدها للتقريب بين الفرقاء، بتشجيع من أمريكا، وصارت تملك أوراقا مهمة في إدارة الملف الليبي. وكان السفير والموفد الأمريكي الخاص لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، أجرى ما وصفها بـ«مشاورات مفيدة» مع مدير عام دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالخارجية التركية في أنقرة، محورها الجهود المبذولة لتحديد «ميقات مقبول» للانتخابات، من دون أن يكشف نورلاند عن تفاصيل أخرى. ومن المؤكد أن تركيا تحرص على قطف ثمار تلك الوساطة بالتمدُد في جميع الاتجاهات والمجالات، بما فيها التعاون العسكري. وكانت حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج وقعت في كانون الأول/ديسمبر 2019 مع الرئيس رجب طيب اردوغان على اتفاقين واحدٌ يخص التعاون العسكري، والثاني يتعلق بترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا، مثلما أسلفنا. وها هي أنقرة تستعجل، مرة أخرى، تحصيل ثمار وساطتها بزيادة حضورها العسكري ونفوذها الاقتصادي، وبخاصة في المنطقة الغربية، وعاصمتها الاقتصادية مصراتة.
في هذا الإطار وقع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة (الذي يحتفظ بحقيبة الدفاع) مع وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، الثلاثاء الماضي في اسطنبول، اتفاقين للتعاون العسكري، على هامش مشاركة آكار والدبيبة في افتتاح «معرض الدفاع الجوي 2022» بإسطنبول. ويرمي الاتفاق الأول إلى الترفيع من كفاءة الطيران الحربي الليبي، بالاستعانة بالخبرات التركية في هذا المجال، وخاصة في الطائرات المُسيرة. أما الاتفاق الثاني فتضمن بروتوكولات تنفيذية للاتفاق الأمني الموقع من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني العام 2019. ويمكن القول إن مصر كانت أول الغاضبين من هذين الاتفاقين الجديدين، خصوصا أن تركيا شرعت في التمدد من طرابلس والمنطقة الغربية نحو المنطقة الشرقية، معقل اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وحسب مصادر فرنسية حذرت القاهرة حفتر من التقارب مع تركيا، مُذكرة إياه بأن التوغل التركي في المنطقة الشرقية «خطٌ أحمرُ». وأتى هذا التحذير بعد التوقيع على مذكرة التفاهم التركية الليبية الأخيرة، بشأن التنقيب عن الهيدروكربونات في شرق المتوسط.

قلق فرنسي من تركيا

أكثر من ذلك أفادت المصادر الفرنسية، التي لا تُخفي هي الأخرى، قلقها من الامتيازات الممنوحة للأتراك، أن رئيس المخابرات المصرية عباس كامل زار بنغازي في الثاني عشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، من أجل ثني حفتر عن التقارب مع الشركات التركية. وفي خضم الجدل المتعلق بتوحيد المؤسسات السيادية الليبية، يعتقد خبراء أن ازدواجية المؤسسات بين الشرق والغرب، تخدم المصالح الاقتصادية المصرية في برقة (الشرق) لكنها لا تناسب الأتراك الذين يُشددون على التعاطي مع ليبيا بوصفها جسما موحدا. وكان وفد كبير من رجال الأعمال والدبلوماسيين الأتراك زار بنغازي مطلع العام الجاري، برئاسة السفير التركي لدى  ليبيا كنعان يلماز، الذي أعلن عن قرب معاودة فتح القنصلية التركية في بنغازي، المقفلة منذ اشتداد أوار الحرب الداخلية في 2014. وما أقلق المصريين أن الزيارة تُوجت بلقاء مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في مدينة القبة (شرق) تطرق فيه الطرفان الليبي والتركي إلى استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين بنغازي وإسطنبول، وعودة الشركات التركية للعمل في مدينة بنغازي، وهذا يدلُ على أن الزيارة ارتدت بعدا سياسيا واقتصاديا في الوقت نفسه.
ويعتقد المصريون أن من شأن هذه العودة التركية القوية إلى ليبيا، الاضرار بمصالحهم، خاصة أنهم يأملون بتحصيل صفقات كبيرة من الليبيين، في إطار إعادة إعمار ما دمرته حربا 2014 و2019. ولا يُخفي الأتراك والمصريون على السواء، أنهم طلبوا من الحكومة الليبية تسهيل استئناف العمل في المشاريع التي توقف تنفيذها بسبب الأوضاع غير المستقرة في ليبيا، وبعضها متوقفٌ منذ 2011. والظاهر أن مصر ستخوض هذه المعركة السياسية بالتنسيق مع حلفائها الإقليميين، في إطار المحور اليوناني- الاسرائيلي- القبرصي- المصري، لكن من دون الإمارات التي غيرت من تحالفاتها.
والأرجح أن مسألة العقود السابقة على 2011 كانت أحد الملفات التي ناقشها وزير الاقتصاد الليبي محمد الحويج خلال زيارته أخيرا إلى اسطنبول، إذ أبدى له الأتراك رغبتهم باستئناف تنفيذ المشاريع التي تم الاتفاق عليها قبل 2011 والتي تصل قيمتها، حسب الخبراء، إلى ما يُقارب 18 مليار دولار. في أثناء ذلك يتردد أن خريطة طريق أممية جديدة تُطبخ في أروقة مجلس الأمن الدولي، لكن من المُستبعد أن تُسفر عن أي نتائج، عدا الإطاحة بحكومة الدبيبة ربما، على غرار خريطة ستيفاني وليامز، التي أطاحت بحكومة الوفاق. والحاصل أن أمام ليبيا اليوم طريقين، فمن جهة يُطلق اللواء المتقاعد حفتر تهديدات بمعاودة غلق الحقول والموانئ النفطية، لتشديد الخناق على خصمه الدبيبة، ومن جهة ثانية يؤكد البنك الدولي أن ليبيا ستستفيد من الارتفاع الكبير في أسعار النفط العالمية، بشرط المحافظة على المستويات الحالية للإنتاج والتصدير، ما يؤدي إلى ارتفاع الإيرادات المالية، وزيادة تدفقات العملة الصعبة إلى الداخل. وبتعبير آخر إذا ما استتب حدٌ أدنى من الأمن والاستقرار، فإن الأوضاع الاقتصادية والمالية ستتحسن بدورها، وتمنح حكومة الدبيبة بالون أوكسجين يُوسع من قدرته على المناورة، لكن إلى متى؟ إلى أن يُستكمل التوافق على تقاسم المؤسسات السيادية، بناء على… المحاصصة.

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات