أحيت الجزائر الذكرى الثمانين لمجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي وراح ضحيتها 45 ألف شهيد، بحضور لافت للمرة الأولى لنواب ومنتخبين فرنسيين يتبنون في معظمهم، مطلب اعتراف بلادهم بهذه الأحداث الأليمة بوصفها “جريمة دولة”. يأتي ذلك، في وقت أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أن بلاده لا يمكن أن تتنازل عن ملف الذاكرة.
تمثل ذكرى مجازر 8 ماي 1945 ثاني أهم موعد تاريخي في الجزائر بعد الثورة التحريرية التي اندلعت في الفاتح نوفمبر 1954. ويعتبر المؤرخون تلك المجازر التي وقعت في غفلة عن العالم الذي كان يحتفل بزوال النازية، بمثابة الانطلاقة الحقيقية للوعي الثوري وفكرة العمل المسلح بعد سنوات من النضال السياسي للحركة الوطنية أيقن من خلالها القادة السياسيون أن الخيار السياسي غير ممكن في التخلص من استعمار يمارس كل أنواع الهمجية ضد الجزائريين.
وفي رسالته السنوية بالمناسبة، شدّد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على أن الجزائر لا تقبل إطلاقًا أن يكون ملفّ الذاكرة عرضة للتناسي والإنكار، مؤكّدًا أن الشعب الجزائري سيظل وفيًّا لتاريخه ولقيم ثورته المجيدة، وسيواصل حماية ذاكرته الوطنية من محاولات الطمس والتزييف، انطلاقًا من قداسة إرث المقاومة ووفاءً لرسالة الشهداء ونهج أول نوفمبر.
وبالجزائر العاصمة، أشرف وزير المجاهدين وذوي الحقوق، العيد ربيقة، على ندوة تاريخية بقصر الأمم، في إطار إحياء الذكرى الـ80 للمجازر، رحب فيها بضيوف الجزائر من المنتخبين وأعضاء البرلمان الفرنسي بغرفتيه، معتبرًا حضورهم في هذه المناسبة التاريخية دليلاً على أهمية وقفة التذكّر والتأمل المشترك. وقال: “نرحب بضيوف الجزائر من المنتخبين وأعضاء البرلمان الفرنسي بغرفتيه في هذه الوقفة التاريخية الذين يشاركوننا إحياء هذه الذكرى”.
وأضاف الوزير أن “مجازر 8 ماي وسمت جبين الجزائر بوسام العزة والمجد والفداء، لتكون نموذجًا لشعب معطاء لا يتردد أبدًا يوم الزحف”، داعيا إلى العمل على توثيق الذاكرة الوطنية بالكتابة والبحث، كون “الذاكرة التي لا تُكتب تتلاشى، والتاريخ الذي لا يُكتب يُسرق”. كما أشار إلى أن من أبرز مكاسب الحفاظ على الذاكرة الوطنية هو “تمكين الأجيال من حقهم في معرفة تاريخهم الوطني، ودعم المؤرخين والباحثين ومراكز الدراسات والذاكرة الرئيسية”.
زيارة 30 نائبا فرنسيا
وصباح الخميس 8 أيار/مايو، حل بالجزائر وفد يضم حوالي ثلاثين نائباً وسيناتوراً ومنتخبا محليا فرنسيا، في زيارة رسمية بمناسبة لإحياء ذكرى المجازر، وذلك على الرغم من السياق شديد التأزم بين البلدين، وهو ما يجعلها نافذة جديدة لاستعادة التواصل على الأقل على المستوى البرلماني.
ويضم الوفد الفرنسي شخصيات سياسية بارزة معروفة بصداقتها للجزائر، في مقدمتها لوران لارديس، النائب الاشتراكي ورئيس مجموعة الصداقة الفرنسية-الجزائرية في الجمعية الوطنية، وفتيحة حاشي، رئيسة لجنة الشؤون الثقافية، إلى جانب دانييل سيموني، نائبة باريس وعضو سابق في حركة “فرنسا الأبية”. كما يشارك في الزيارة ستيفان بو، رئيس كتلة الحزب الشيوعي في الجمعية الوطنية، وبلخير بلحداد، النائب غير المنتمي حالياً والعضو السابق في حركة “النهضة” التابعة للرئيس إيمانويل ماكرون.
ويوجد ضمن الوفد النائبان صبرينة صبايحي وكريم بن شيخ عن التكتل الإيكولوجي، إلى جانب نحو عشرين منتخباً آخر، من بينهم المدافعون عن إرث الأمير عبد القادر”، على غرار النائب رفيق تمغاري. ويرافق الوفد كذلك عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي المنتمين للتيار الوسطي، من بينهم رافاييل دوبي، ممثل منطقة “لوت”، وسوفي بريانت جيلمون، ممثلة الفرنسيين المقيمين بالخارج، والسيناتور أحمد لعوج، عن سان سان دوني، وعديل زيان، السيناتور الاشتراكي عن نفس المنطقة، وأكلي ملوّلي، السيناتور المستقل.
وفي حوار لها مع جريدة “الخبر”، أكدت النائبة الفرنسية صبرينة صبايحي التي كانت ضمن الوفد، أن الزيارة تندرج في إطار دعم مسار اعتراف واضح وصريح من قبل الدولة الفرنسية بمجازر 8 ماي 1945، معتبرة أن الوقت قد حان لكي تتحمل فرنسا مسؤوليتها التاريخية تجاه هذه الجريمة التي وصفتها بـ”جريمة دولة”.
وأشارت إلى أن هذه المبادرة تأتي ضمن مساعٍ للدبلوماسية البرلمانية من أجل تهدئة التوترات القائمة بين باريس والجزائر، واستعادة الثقة من خلال إعادة بناء جسور التواصل بين برلماني البلدين، رغم ما تشهده العلاقات الثنائية من جمود على المستوى الحكومي.
وأوضحت صبايحي ذات الأصول الجزائرية، أن اكتشافها لحجم الجرائم المرتكبة في قالمة وخراطة واطلاعها على الشهادات حول الفظائع التي ارتُكبت، بينها استخدام أفران لإخفاء الجثث وتسليح الميليشيات، شكّل دافعًا شخصيًا لتبني هذا الملف كأولوية في عهدتها البرلمانية. واعتبرت أن مجازر 8 ماي تمثل بداية حقيقية لحرب الجزائر، مشيرة إلى أن هذه الصفحة من التاريخ لا تزال مغيّبة عن المناهج التعليمية الفرنسية وعن وعي الرأي العام.
واعترف النائبة بأن المبادرات التشريعية التي يقودها بعض النواب، ومنهم نواب عن حزب “فرنسا الأبية”، للاعتراف الرسمي بالجرائم الاستعمارية، مهددة بالفشل في السياق السياسي الحالي. لكنها شددت على ضرورة مواصلة العمل البرلماني والتوعوي لتحقيق العدالة التاريخية، مؤكدة أن الاعتراف بالجرائم الاستعمارية يتطلب شجاعة سياسية وإرادة جماعية من أجل بناء مستقبل مشترك على أسس الحقيقة.
وفي نفس السياق، أكد وزير الداخلية الجزائري، إبراهيم مراد، في تصريح أدلى به على هامش فعاليات إحياء الذكرى، أن “أحداث 8 ماي 1945 تمثل ذاكرة وطن وتضحيات شهداء”، مضيفًا أن تلك المجازر “جعلت الطبقة السياسية آنذاك تؤمن بأنه لا حل إلا بحمل السلاح في وجه المستعمر الغاشم”.
وأشار مراد إلى أن “انطلاقة الثورة التحريرية في 1 نوفمبر ما كانت لتحدث لولا مجازر 8 ماي، التي سهلت انفجار الثورة”، مذكّرًا بأن “هذه الأحداث تبقى وصمة عار في وجه المستعمر الذي أنكر وجود جرائم ضد الإنسانية”. وانتهى إلى إن “فرنسا ستعترف حتما بأن هناك جرائم وقعت في الجزائر من قبل المستعمر الغاشم”، على حد قوله.
تعليقات الزوار
لا تعليقات