لن أخوض في الجدل المتعلق بوسم «عمي تبون ما تروحش للعراق» الذي يناشد الرئيس عبد المجيد تبون للامتناع عن حضور القمة العربية المقررة في بغداد منتصف الشهر المقبل. قيل الكثير عن الوسم وأُشبع تحليلا وانتقادا وتفسيرا، فليس لديّ ما أضيف. لكن في قرارة نفسي أستحي وأشعر بالحرج من هذا الوسم، وأجده مسيئا للجزائر غير لائق بمكانتها (جاء في صحيفة جزائرية أن عرّافة تكهنت بمقتل رئيس عربي في العراق، فقفزوا إلى تصديقها واستنتاج أن المقصود تبون). لم أتخيّل في أسوأ كوابيسي أن ينحط النقاش العام في الجزائر إلى هذا المستوى.
ما يهمني أكثر (ويخيفني) أن يستجيب تبون ويغيب عن القمة العربية. إذا ما غاب سيكون الوسم مجرد غطاء، لكنه سيكون مؤشرا على دخول العمل العام في الجزائر مرحلة لا يحسدها عليها ألد أعدائها.
قاطع تبون قمة الرياض في شهر آذار (مارس) الماضي بذريعة أنه غاضب من احتكار عدد محدود من القادة العرب القرار العربي وفرض ما يرونه على بقية الدول. لم تغيّر مقاطعة تبون قمة السعودية شيئا من احتكار مجموعة من القادة القرار العربي، بل سهّلت مأمورية هؤلاء القادة وفسحت لهم المجال للتصرف بحرية من دون معارضة من أحد.
غياب تبون عن قمة العراق، الذي لا أتمناه، إن حدث، لن يخدم الجزائر، علاوة عن أنه سيكون تصرفا يفتقر للباقة الدبلوماسية والعرفان بالجميل. ففي القمة التي استضافتها الجزائر في شتاء 2022، كان الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد من أول القادة العرب الذين وصلوا إلى الجزائر. ولم يغب الرئيس رشيد عن قمة الغاز التي احتضنتها الجزائر في ربيع العام الماضي. ولم يصدر عنه وعن حكام العراق، مهما كان رأينا فيهم، شيء يشي بالعداء أو الخصومة للجزائر. أصلا، أعداء الجزائر يحاولون الإضرار بها من بوابة تحالفها المزعوم مع إيران، ومَن يقل إيران يقول استطرادا القوى الحاكمة والمؤثرة في العراق مثل الحشد الشعبي والفرق القريبة منه. وفي المقاربة للقضية الفلسطينية لا يكاد يوجد فرق يذكر بين الجزائر وبغداد. إذن، الجزائر مُطالبة في أقل الأحوال برد الجميل، فمن أين جاء كل هذا العداء للعراق وهذا النبش غير البريء في التاريخ؟
الكلام الذي روجه ذلك الوسم المشين عن تسميم الرئيس الراحل هواري بومدين في العراق، ثم إسقاط طائرة وزير الخارجية السابق، محمد الصديق بن يحيى، بصاروخ عراقي، مجرد هذيان سوشال ميديا. هذا بالضبط ما يحدث عندما تصبح منصات التواصل الاجتماعي ساحة مفضّلة للنقاشات الجادة، ومنبرا لمدّعي المعرفة والثقافة ينشرون فيها جهلهم وسمومهم. ويسوء الوضع أكثر عندما تشجع المؤسسات الرسمية ذلك الهذيان وتتبناه عبر أذرعها الإعلامية، مثلما أوكلت للتلفزيون الحكومي الجزائري وبقية المؤسسات الإعلامية تبنّي وسم «عمي تبون»…
الزج بالراحلَيْن بومدين وبن يحيى ينمّ عن نوايا فيها كل شيء إلا البراءة والاحترام للرجلين وهم في الدنيا الأخرى. مرة يقولون إن بومدين لم يُسمّم، وأخرى سُمم في سوريا، وثالثة في العراق ورابعة في موسكو. الحقيقة الوحيدة أن بومدين رحل قبل 47 سنة وأخذ معه أسراره ومنها أنه ليس أكيدا أنه مات مسموما. وتكبيل بلد برمته بتخمينات وشبهات عمرها قرابة نصف قرن لا يمت بصلة للحكمة والرصانة السياسية.
أما طائرة الوزير بن يحيى فأسقطها فعلا صاروخ عراقي من صنع روسي يوم 30 أيار (مايو) 1982 غير بعيد عن الحدود التركية العراقية.
وقد قال الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في مذكراته أن الرئيس صدام حسين اعترف بذلك وظل مطأطئ الرأس لا يجد ما يقول من شدة الحرج عندما واجهه الرئيس بن جديد بنتائج التحقيق. الخلاصة أن الرئيس بن جديد هو الذي اختار تهدئة القضية لأسباب منها تفادي أن يُفسّر أي ضغط منه انحيازا لإيران في الحرب التي كانت مستعرة بينها وبين العراق. لقد أدمى ذلك الحادث المأساوي الجزائر برمتها، وفي مقدمتها الرئيس بن جديد الذي اعترف بأنه بكى بن يحيى بحرقة كأنه أحد أولاده. بن يحيى من خيرة ما أنجبت الجزائر من دبلوماسيين، كان في بدايات مساره الذكي الحذق الذي يجد الحلول لمعضلات الوفد المفاوض في إيفيان من أجل الاستقلال. لكن ما يجهله كثير من الجزائريين أن بن يحيى نجا من الموت عندما سقطت (أُسقطت؟) طائرته في مالي في ربيع 1981، أي قبل عام بالضبط من ذلك الصاروخ العراقي المشؤوم.
الآن إلى شيء من الواقعية ولماذا يجب أن يذهب تبون إلى قمة العراق: لأن العرب (وغيرهم) جرّبوا في السابق سياسة الكرسي الشاغر، فرادى ومجموعة، ولم يجنوا منها شيئا. لأن المقاطعة في هذا الزمن الذي تتداخل فيه العلاقات والمصالح خطأ قد يكون مكلفا. لأنك بهذه الذهنية سينتهي بك الأمر غائبا عن كل الأحداث الإقليمية والدولية الكبرى. لأن القضية الفلسطينية في حاجة إلى من يدافع عنها على فرض أن الجزائر تحمل لواءها وبقية الدول العربية تتآمر عليها. لأن القمة ستنعقد بمن حضر وتقرر ما يراه العدد المحدود من القادة المتحكمين في مصير العمل العربي. لأن الحضور فرصة لتفعيل العمل الدبلوماسي الجزائري عربيا. لأن عمل الكواليس ضروري ولقاءات الهوامش مفيدة لعقد صفقات وبناء جسور وإصلاح ما تهدّم أو يوشك. لأن الانفعال وشخصنة الوقائع ليسا أسلوبا لإنجاح العلاقات الدبلوماسية.
في الختام وبلغتهم: عمهم تبون، كن حكيما ولا تستمع لهم وللذين يحركونهم.. توكل وروح إلى العراق وإلى كل مكان يشهد فعاليات وقمم دولية وإقليمية يُقرَّر فيها مصير العالم والمنطقة. مصلحة الجزائر في الحضور لا في المقاطعة!
توفيق رباحي
تعليقات الزوار
لا تعليقات