أخبار عاجلة

متى تختفي اللغة الفرنسية من الجزائر

تخيل أن تستفيق في الصباح، وترغب في سماع الأخبار. تشغل الراديو من السيارة أو من الموبايل، وتضبط التردد على موجة المحطة الإذاعية الثالثة، لكنها لا تشتغل. لأنها ناطقة بالفرنسية وهذه اللغة قد اختفت من البلاد. ثم تتوجه إلى دار البلدية، من أجل تجديد جواز السفر، فيطلب منك الموظف أن تعود في وقت لاحق ـ من غير تحديد ـ لأن جوازات السفر تصدر كذلك بالفرنسية. وقد صارت هذه اللغة مجهولة في الجزائر. لا أحد يعرف الكلام بها أو استخدامها. تتذكر أنك أضعت بطاقة تسجيل السيارة، وعليك استخراج أخرى، ثم يبلغك موظف آخر أن تعود في غضون شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، لأن تلك البطاقة تصدر بالفرنسية كذلك. وعندما تصل إلى عملك، سوف تشغل اللابتوب، وقد تعود الجزائريون على برامج تشغيل فرنسية، مما يضطرك إلى تغيير اللغة، تبحث عن الأخبار من الجرائد الرصينة، والجرائد الرصينة تصدر بالفرنسية، بالتالي لن يتاح لك مطالعة مواقعها ولا العثور عليها عند الباعة.

تنوي الاطلاع على القوانين الجديدة، لكن الجريدة الرسمية، التي تصدرها الحكومة، تصدر كذلك بالفرنسية، فتصير غير متاحة في الحين. وعندما تغادر عملك سوف تصادف مجاميع من العاطلين عن العمل؛ إنهم أساتذة اللغة الفرنسية، هذه اللغة التي تدرّس في أطوار التعليم كلها، ولأنها اختفت فإن المعلمين والأساتذة يصيرون بلا عمل. كما إن الطلبة والتلاميذ كذلك سوف يمكثون في الشارع، لأن امتحانات الفرنسية سوف تلغى. ثم تصادف طوابير من المسنين أمام بنك، ينتظرون الحصول على معاشهم، نظير عملهم في فرنسا سنوات الشباب، لكنهم لن يستلموا حقوقهم، بحكم عجزهم عن قراءة البرقيات التي تصلهم من صندوق التقاعد في فرنسا. وفي النهاية اليوم، سوف تصادف جارتك، التي بلغت من الكبر عتيا، وهي تتحسر على عدم قدرتها على الحديث مع حفيدتها، التي ولدت وكبرت في فرنسا، ولا تعرف غير الفرنسية لغة لها. من المحتمل أن تجلس قبالة تلفزيون، من أجل مشاهدة مباراة منتخب الكرة، لكن نصف اللاعبين لن يدخلوا الميدان ولا المدرب، لأنهم لا يعرفون سوى الفرنسية، وهذه اللغة لا يتكلمها النصف الآخر من منتخب الكرة.

هذه عينة مما قد يحصل في الجزائر، في حال إزالة اللغة الفرنسية من المشهد، فكل شيء سوف يصير هشا، من أعلى الهرم إلى أسفله، ولن ينجو أحد من التبعات. هذا ما سوف يحصل إذا صدقنا كلام أحد من المذيعين، وهو يصرخ قبل أيام: «إن فرنسا أفعى. اقطعوا لسانها في الجزائر». يبدو أن هذا المذيع من ضحايا التسرب المدرسي، لا يعلم أن الأفعى لا تلدغ من لسانها، بل أنيابها. وأن قطع لسانها لا يغير شيئا من مقدرتها على اللدغ. مع ذلك فقد ظل مصرا أن فرنسا أفعى وأنها تلدغ بلسانها. وأمثال هذا المذيع كثيرون. ينتفعون من حربهم الوهمية على اللغة الفرنسية، من أجل كسب مريدين على السوشيال ميديا، أو في انتخابات محلية، فمن يريد أن يصير شهيرا في الجزائر، يكفي أن يقيم العداء إزاء فرنسا، وسوف يكسب القلوب، من يريد أن يصير جزائريا فوق العادة فيجب أن يناصب العداء إزاء فرنسا.

ولكن ما هو ذنب اللغة الفرنسية؟ إذا حذفناها سوف تختل الحياة الجزائرية، وسوف تضيع مصالح الناس، وسوف يضطرون إلى الانتظار مدة تطول، من أجل تسوية وثائق وحيازة خدمات، وفي الأثناء سوف يتوقف استيراد دواء وقطع غيار، ويتوقف التصدير وكذلك التعليم. لقد فات الأوان، لأن الفرنسية باتت مكوناً لسانياً، لا غنى عنه في البلاد. فهل نواصل قمعها، أم نتصالح معها ونكسب منها فائدة، بدل التحريض عليها؟ وهو تحريض لا يفيد سوى إعلاميين، يريدون الرفع من أرقام المشاهدة، أو طامعين في منصب أو كرسي!
من يهاجم اللغة الفرنسية، في الجزائر، إنما يهاجم اللغة العربية من غير أن يدري. لأن العربية من شأنها أن تنمو وتزدهر في جنب لغة أخرى من دون حرج. وإذا عدنا إلى التاريخ فإن الذين حافظوا على اللغة العربية في نبضها ووجودها، فإنهم الأدباء. والأدب هو الذي يحفظ اللغة بغض النظر عن منشئها أو بلدها. هؤلاء الأدباء في الجزائر استفادوا من الفرنسية، ففي سنين ماضية، عندما كانت الحكومة تحتكر سوق النشر، ومهتمة بالأرقام، وتتفاخر بأعداد الكتب التي تنشرها كل عام، نسيت أمرا مهما: وهو الترجمة. لأن الأدب لا يستقيم من غير ترجمة، ولأن الترجمة لا تزال متعثرة في الجزائر، وفي تلك السنين لم تكن ترجمات الآداب الأجنبية، التي تصدر في دول الجوار، تصل إلى الداخل، ما حتم على الأدباء الاستفادة من معرفتهم بالفرنسية في قراءة أعمال كتاب أجانب. وأظنني من جيل قرأ أدب أمريكا اللاتينية بفضل الفرنسية، وقد قرأنا كذلك تولستوي وديستوفسكي بالفرنسية. قرأنا بالفرنسية وكتبنا بالعربية. ولدنا بلسان عربي والفرنسية وسعت من دائرة مخيلتنا.

واللغة العربية لا ترى فرقا بين اللغات ولا تمييزا، إنها أرض تسع الجميع، مثل الفرنسية، ومن الغريب أن نحمذل لغة وزر أفاعيل السياسة. لأن العداء إزاء الفرنسية يتزايد كلما زادت الخلافات السياسية بين البلدين، لا يوجد أحد في الجزائر لم يعرف فيكتور هوغو أو لم يطالع صفحات له أو لم يطالع «الأمير الصغير». لا يوجد من لم يصادف كتابا بالفرنسية ولم يحبه. لماذا نزيل لغة أحببنا أدبها؟ بحجة أنها تنافس اللغة العربية، أو أن محوها بوسعه خدمة العربية؟ فالشيء الذي يتغاضى عنه أنصار محو الفرنسية أنهم لا يتحدثون عن خططهم وسياستهم في تطوير العربية، لأنهم ببساطة لا يمتلكون سياسة لغوية، بل يودون محو الفرنسية من أجل إرساء لغة بديلة عنها، ونقصد بها الإنكليزية. ونحن نعلم أن الأخيرة لغة غير سائدة في البلاد. كم يلزم من عقود ومن أجيال كي تصير الإنكليزية لغة شائعة؟ وفي الأثناء هل سوف نعطل مصالح الناس وشؤون الدولة؟ فالخطاب المعادي لفرنسا تحول إلى معاداة للغتها. من غير أن ندرك أنها لغة قد سادت وأن الناس تعودوا عليها، من غير أن يتخلوا عن العربية. فإذا أردنا التخلي عن الفرنسية، كما يطالب بعض الناس، فسوف يدخل المواطن في تيهان مثلما حكينا في بداية المقال، ويصعب عليه الخروج منه. لذلك من الأولى أن نستفيد من دروس العربية، كلغة وثقافة، ومن دروسها أن نتعلم مجاورة الآخرين ولغتهم، من غير خوف أو معاداة. أن نتعلم المحبة مثلما وصفها شعراء العربية القدامى.

سعيد خطيبي

اضف تليق

Leave this empty:

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات