صدر، يوم الخميس، حكم على الكاتب بوعلام صنصال (75 سنة)، بخمس سنوات سجناً، في قضايا تتعلق بجنحة المساس بوحدة الوطن، إهانة هيئة نظامية، القيام بممارسات من شأنها الإضرار بالاقتصاد الوطني، وحيازة فيديوهات ومنشورات تهدد الأمن والاستقرار الوطني، مع أن الكاتب نفى أن تكون له نية في المساس بمصالح الوطن (كما عبر على ذلك أثناء محاكمته، وكما نقلته وسائل إعلام محلية) وقال، إنه أراد التعبير عن وجهة نظره وليس في نيته الإساءة لأي أحد. وقد أشعلت قضية الكاتب صنصال جدلاً واسعاً، بين الجزائر وفرنسا (باعتبار حيازته كذلك الجنسية الفرنسية)، منذ توقيفه في مطار هواري بومدين، منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وبوعلام صنصال واحد من أشهر الكتاب في الجزائر، وتحظى أعماله بقاعدة قراء واسعة، في أوساط الناطقين بالفرنسية، فمنذ صدور أول أعماله، لاقى ترحيباً وإقبالاً، قبل أن تتعرض أعماله إلى تضييق ومنع في وقت لاحق.
منذ ربع قرن، وكلما أصدر عملاً جديداً، يثير بوعلام صنصال جدلاً، ويفتح باب نقاش، ويحرك الخمول الذي تموج فيه الساحة الأدبية، في الجزائر، وذلك منذ باكورته «قسم البرابرة» (1999). وهي رواية شرّح فيها الجسد الجزائري، وما يعانيه من اضطرابات، في علاقاته الصدامية مع الماضي، وعدم شفائه من هزات التاريخ، وكذلك ما يعانيه من قسوة التطرف الديني، الذي حول الإنسان إلى كائن معزول يفكر في خلاصه، لا خلاص الآخرين. هذه الرواية أثارت الجدل حال صدورها، فبعدما كان الأدب في الجزائر منشغلاً بهموم ذاتية، والكاتب منشغلاً في حكايات عن نفسه، لا عن العالم الذي يعيش فيه، كتب صنصال نصاً مخالفاً للسائد، يغامر في التاريخ، وفي تفكيك الأزمات التي تحيا فيها البلاد في الزمن الحاضر، وقد حظيت الرواية في وقت وجيز بترجمة إلى العربية (في وقت لاحق سوف تنصرف دور النشر عن نقل أعمال صنصال إلى العربية).
وروايته الأولى، وعلى الرغم من كل السنين التي انقضت، لا تزال في الواجهة، وقد لاقت إقبالاً واسعا ولا تزال، ويمكن وضعها في خانة النصوص الأساسية في الأدب الجزائري الحديث، وهي رواية تقع في الخط الفاصل بين التخييل والتخييل الذاتي، تتطرق كذلك إلى الأزمات النفسية التي خلفتها السنين على حال الجزائريين. وضعت «قسم البرابرة» صاحبها كذلك على خريطة الأدب، ثم توالت إصدارات أخرى. وفي كل مرة يظهر فيها بوعلام صنصال بعمل جديد، لا بد أن يثير زوبعة من الآراء، بين من يشيد بأعماله، ومن يصب على رأسه أقدح الألفاظ والنعوت. فهو كاتب بقدر ما حظي بإجماع من جهة النقاد، نظير اشتغالاته الفنية في الكتابة، فقد ظل يثير حفيظة طبقة من المحافظين، الذين ينفون عن الأدب حقه في التخييل وفي مقاربة الراهن. فكتابات صنصال لا تمر من غير تحريك الركود. واستمر الحال كذلك إلى غاية 2008، عندما أصدر «قرية الألماني»، وهي الرواية التي سوف تتعرض إلى المنع وتجعل من كاتبها شخصاً غير مرغوب فيه في الجزائر، نظراً إلى جرأته في تقليب تربة التاريخ، وحديثه عن واقعة (دافع عنها في حواراته كذلك)، تتعلق برجل ألماني، كان منخرطاً في النازية، وعقب الحرب العالمية الثانية فرّ من بلده، وأوصلته الأقدار إلى الجزائر. غير اسمه ودينه ومحا ماضيه، وانضم إلى المجاهدين الجزائريين. ومع أن بطل الرواية لا يربط بين عمله السابق في ألمانيا ومشاركته في حرب التحرير، ولكن مجرد أن يحوز سيرة بين النقيضين (مثلما يقول خصوم صنصال)، جعل من رواية «قرية الألماني» فأل شؤم على صاحبها، وبدأت محنته، في المنع والرقابة في بلده، حيث باتت كتبه غير متاحة في المكتبات، كما انصرفت دور نشر محلية عن ترجمته إلى العربية.
يلقى بطل رواية «قرية الألماني» مصرعه على يد جماعة متطرفة، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، في خضم العشرية السوداء، والحال نفسه مع بوعلام صنصال، الذي سوف تلقى رواياته مصرعها في بلده الأم، ويصير خصماً لحرس التاريخ. وفي 2015، أصدر روايته «2084.. نهاية العالم»، وهي رواية ديستوبية، شكلت عتبة تحول في مسار الرجل (سوف تليها روايتان من هذا النوع كذلك)، فقد انصرف عن الكتابة عن تاريخ البلاد، كما لو أنه تعب من معاركة منتقديه، تعب من تفسير كلامه في كل مرة تصدر فيه رواية جديدة له، وصار مشغولاً في رواياته عن مستقبل الحياة ومآل البشر. لم يعد يكتب عن الجزائر، بل يعبر عن خشيته مما سيحصل للإنسان، في عالم اختلت فيه الموازين، وصارت تحكمه الخرافة لا العقل. عالم يؤمن بالشائعة لا بالقراءة.
تعرفت إلى بوعلام صنصال عام 2004. في صيف ذلك العام وصلت إلى مدينة بومرداس، في فوج من طلبة الجامعات (بدعوة من يحيى قيدوم، وزير الشباب والرياضة آنذاك)، والذي جمع طلبة من مختلف أرجاء البلاد، بغرض المساعدة في إتمام ترميم إقامة جامعية، عقب الزلزال الذي ضرب بومرداس عام 2003 (بقوة 6.8 على سلم ريختر وخلف أكثر من ألفي ضحية). كنا نشتغل من السابعة صباحاً إلى السابعة مساءً، ثم تتاح لنا فرصة في التنزه، قبل العودة إلى العمل في اليوم التالي. وسمعت من الألسنة ما وقع للكاتب صنصال، فهو كذلك كان يقيم في بومرداس. عقب الزلزال اختفت أخباره. ظن البعض أن الرجل قد هلك تحت الأنقاض، وأن خبر وفاته سوف يعلن عنه بين الحين والآخر. ساد الحزن في تلك المدينة، التي لم تحظ في تاريخها سوى بكاتبين: رشيد ميموني وبوعلام صنصال. ولكن بعد أسبوع من انقطاع أخباره، ظهر بوعلام صنصال. وأدرك الناس أن الرجل كان منشغلاً مع فرق الإنقاذ. تحول في تلك الأثناء إلى مسعف. كاد أن يهلك وهو يعين الآخرين في النجاة من الهلاك. لعب دوره كمثقف في إنقاذ حيوات بشر، ولم يتخيل أن يأتي يوماً يصير فيه متهماً في قضية، ويدخل السجن، ويحكم عليه بخمس سنوات خلف القضبان.
سعيد خطيبي
تعليقات الزوار
لا تعليقات