أخبار عاجلة

سيد أحمد غزالي التكنوقراطي الذي فشل في امتحان السياسة

كان عمر سيد أحمد غزالي الذي غادرنا الأسبوع الماضي، رحمه الله، سبعة وعشرين سنة فقط عندما عين على رأس كتابة الدولة للأشغال العمومية في آخر حكومة للرئيس بن بلة، بعد تجربة موقع الاستشارة الذي قام به على مستوى وزارة الصناعة، بداية من أيام الاستقلال الأولى. مناصب بررها حصوله على شهادة مهندس دولة من مدرسة فرنسية مرموقة لتكوين المهندسين، في وقت كانت تشكو فيه الجزائر من ندرة في الإطارات التقنية المؤهلة، أوصلت هذا الشاب الندرومي الأنيق إلى مواقع مهمة على هرم السلطة، على غرار وزارة المالية والخارجية وأخيرا رئاسة الحكومة، التي غادرها بعد فشل حكومته في تنظيم الانتخابات التشريعية التي كانت المبرر الرئيسي الذي أوصله إلى هذا المنصب بعد مغادرة حكومة حمروش الساحة، ابن جيله وغريمه السياسي، فشلت هي الأخرى في تنظيم هذه الانتخابات المفصلية التي كانت وراء الكثير من المآسي. حياة سياسية، تقاعد منها سيد أحمد غزالي، وهو لا يزال في عز عطائه، كالكثير من أبناء جيله (55 سنة فقط) على وقع هذه النكسات في المجال السياسي عكس التوفيق الذي عرفته حياته المهنية كتكنوقراطي ومسير على رأس سوناطراك، لمدة فاقت العشر سنوات بين 1966-79، جعل الرجل يخرج بهذا الاستنتاج الذي فاجأ الكثير، وهو يتكلم عن ذلك الإحساس الذي انتابه في نهاية مشواره السياسي بأنه كان «حركي» عند أصحاب القرار أكثر من شيء آخر، بكل ما تحيل إليه هذه الصفة في الجزائر من محتوى قدحي.
شعور لتفسيره اعتقد أنه من الضروري أن نفكر في تعميمه على كل هذه الفئات الوسطى المتعلمة، التي مثلتها الإطارات التكنوقراطية تحديدا، التي استعملت خبرتها وشهادتها الجامعية المتخصصة للوصول إلى مواقع مهنية عليا لم تسمح لهم، رغم ذلك، بالمشاركة في اتخاذ القرار، بقدر ما كانوا مطبقين لقرارات تتخذ بعيدا عنهم، يقومون بتنفيذيها وإيجاد التبريريات التقنية لها، كما بينه قرار إلغاء الدور الأول من الانتخابات التشريعية، التي تكلمت عنها بالتفصيل ليلى عسلاوي في أحد كتبها وهي تؤرخ لتجربتها كوزيرة خلال هذه الفترة المضطربة من تاريخ البلد والمؤسسات، داخل حكومة غزالي الذي كان يتكلم عن هذه التجربة وكأنه غير معني بها ولم يكن طرفا فيها!

فئة تكنوقراطية منحت مهمة تمثيلها لدى أصحاب القرار الفعليين إلى بعض الوجوه ـ احسن من قام بهذا الدور كعراب عبد السلام بلعيد – قامت بالتجسير بينها وبين مراكز القرار التي لم تتعامل معها مباشرة، واكتفت في الغالب بتطبيق تعليماتها التي تصلها عبر العراب، كما أكده لنا غزالي وهو يذكر أن بومدين كان لا يستقبل أي رئيس أو مدير عام ـ إلا أنا عندما كنت على رأس سوناطراك ـ حتى عندما تصل إلى أعلى المواقع، كما هو حال الوزارة ورئاسة الحكومة، التي سيسيرها غزالي مثل غيره من رؤساء الحكومات الآخرين بشكل وضعت فيه فروق بين مجموعة صغيرة من الوزراء يستشارون، ويتم إخبارهم ببعض التفاصيل، كما كان الحال مع بوبكر بلقايد في حكومة غزالي، وباقي الوزراء الذين لا يحضرون إلى هذه اللقاءات المغلقة، التي تناقش فيها القضايا السياسية الحساسة. «حكومة الليل» كما سماها أحد الوزراء وهو يتكلم عن تجربته داخل حكومة حمروش، وليس حكومة غزالي المشابهة لها ونحن نتكلم عن الاختلاف في التعامل مع الوزراء الذي يقوم بها رئيس الحكومة، لاعتبارات متعلقة بالمسار السياسي والمهني للوزير، الذي عادة ما يكون قد تقاطع مع مسار رئيس الحكومة، أو لاعتبارات جهوية، تقرب الوزير من رئيس حكومته، كما ساد في حكومة غزالي التي تكلمت الصحافة بصددها عن حكومة «سلطنة تلمسان» نفاها الرجل لي في أكثر من مقابلة معه، وهو يتكلم عن علاقاته العائلية بالمصاهرات التي تميزها -تزوج من طالبة طب لم تنه تعليمها الجامعي، ابنة عائلة سطايفية مشهورة، تعرف عليها في ملعب لكرة التنس بالعاصمة، تجعله يتنقل من أقصى الغرب – ندرومة إلى باتنة مرورا بسطيف لزيارة أفراد عائلته وأصهاره من الأحياء والأموات، تنفي عنه كل نزعة نحو الجهوية، تكذبها حسب وجهة النظر هذه تحالفاته العائلية ذات الطابع الوطني، كما ساد عند الكثير من الجزائريين وهم يتزوجون من خارج محيطهم الجغرافي الضيق، يؤهل الجزائر لبناء نسيج اجتماعي وطني متين.
فئة تكنوقراطية بعمقها الوطني مثلها أحسن تمثيل هذا الندرومي المولود في تغنيف بمعسكر عند عائلة الأم التي فضلت أن تضع حملها، كما جرت العادة في بيت الأب، الذي عرف بمهنة التمريض، عكس الأب غزالي الندرومي، معلم الفرنسية ابن الوسط المهني المرتبط بعالم النسيج الذي اشتهرت به المدينة، ما يعني أننا أمام فئات وسطى متعلمة استفادت منها الأم كذلك، كما استفاد منها الطفل سيد أحمد وهو يدخل المدرسة مبكرا كامتياز استفاد منه أبناء المعلمين، خلال هذه الحقبة التاريخية التي بدأ ينتشر فيها التعليم بين أبناء المدن، كما كان حال ندرومة المتميزة في هذا المجال، ما حولها إلى مشتلة فعلية في إنتاج نخب بيروقراطية وتعليمية وصل إشعاعها إلى المغرب، كما بينت ذلك أكثر من دراسة تاريخية، اهتمت بالتاريخ الثقافي للجزائر.. ليتعمق الفشل السياسي لهذا التكنوقراطي الناجح في أكثر من محطة سياسية مثل، الترشح للانتخابات الرئاسية، الذي فشل أكثر من مرة 1999- 2004 في تحقيقه، أو عندما فشل في تكوين حزب سياسي اعتمد فيها على إطارات تشبهه سوسيولوجيا لم تضف له الجديد والنوعي في المجال السياسي الذي ينقصه، حزب لم يتمكن في الأول من الحصول على اعتماد له من قبل مراكز قرار سياسي في وقت كان فيه ابن ندرومة عبد العزيز بوتفليقة على رأس السلطة، الرئيس الذي تميزت علاقات الرجل معه منذ كانا معا في حكومة بن بلة الثانية – 1964- بسوء تفاهم عميق لم يسمح لهما بالعمل معا، قد يكون وراءه زيادة على الاعتبارات السياسية بعض العوائق الذاتية المرتبطة بشخصية الرجلين بما ميزها من اعتداد بالنفس وقوة الشخصية.
تجربة فاشلة في الترشح للرئاسيات وتكوين حزب سياسي جعلت الرجل يتقرب في السنوات الأخيرة مما تسميه اللغة الإعلامية ـ السياسية في الجزائر بأحزاب الـطب الديمقراطي، ممثلا في حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، كما فعل غيره من رؤساء الحكومات مع أحزاب أخرى، دون نجاح في تكوين تحالفات سياسية وطنية واسعة تجسر بين الأجيال، كانت تحتاجها الجزائر لكنها فشلت في إنجازها، كان يمكن أن تنجح في إدماج هذه الفئات التكنوقراطية في اللعبة السياسية من بابه الواسع.

ناصر جابي

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات