أخبار عاجلة

فن رقص القعدة المغربي أصل الفلامنكو الإسباني بعمق تاريخي و حضاري قديم

تنظر إلى المغرب فترى ألواناً من الفنون، ولا تزال تكتشف منها المزيد، تقف أمام كل فن وتتأمله فيخبرك بالكثير عن عمقه الحضاري، وتاريخه القديم بأبعاده الزمانية والمكانية وتأثراته البيئية والجغرافية، تتشكل لوحة الفنون في المغرب وتتكامل وتتشابك أجزاؤها بدقة شديدة وتنميق فريد. والفن في المغرب روح تسكن تفاصيل الحياة، تلك الروح الفنية ما هي إلا تلخيص الشخصية المغربية وتجسيداتها المختلفة، المعبرة عن العقل والمخيلة والتكوين النفسي وطبيعة التفاعل مع العالم، لمسة فنية مكثفة غلفت حياة المغربي منذ قديم الزمان، وهي شيء أصيل متجذر في هذا الشعب، لا يستطيع الانفصال أو التخلي عنه، فالفن ليس عرضاً محدد الوقت والمكان يشاهده لدقائق أو لساعات ثم ينصرف عنه، وإنما هو عرض مستمر وممارسة دائمة ومعايشة تخلق الألفة وتنمي الروابط. في المغرب تجتمع تلك اللمسة الفنية مع شيء آخر شديد الأهمية، هو قوة التعبير عن الشخصية المغربية بشكل جاد ومحدد وصارم.
لا شك في أن الإنسان بشكل عام ومنذ بدايات وجوده على الأرض، أخذ يبحث عن الفن كاحتياج فطري ملح، فحاول أن يخلق النغم والإيقاع والرسوم والمجسمات، وإن كان لا يملك سوى عظام الحيوانات وفروع الأشجار وجدران الكهوف. ولعل الإنسان المغربي منذ بدء وجوده على أرض بلاده خاض رحلة جمالية طويلة، حتى قام بتكوين هويته الفنية الخاصة والمتفردة، وصار الفن يحيط به من كل جانب، ومكوناً رئيسياً في كل ما يقوم به، فعندما أعد المغربي طعامه وأكلاته المتعددة، أبدع فناً يتجاوز فنون الطبخ المتعارف عليها، وعندما صمم ثيابه وملابسه النسائية والرجالية من قفطان إلى جلابة، إلى سلهام وطربوش وبلغة، إلى العديد من القطع الأخرى، بالإضافة إلى الحلي والزينة، خلق فناً بديعاً وعلامة جمالية خالدة لا تفقد جاذبيتها على مرّ القرون من الزمان، بل تزداد إشراقاً وإبهاراً للعالم، أما المعمار المغربي فيمكن الحديث عنه طويلاً، وهو يقف شاهداً على أصالة عراقة الحضارة المغربية، حتى الشوارع والأزقة ودرجات السلالم كانت مساحة للفنان المغربي ليطبع عليها فنه، وكذلك الأبواب في المغرب تحولت إلى أعمال فنية، تتعدد بتعدد المنازل والبيوت، كما لو أن كل باب كتاب يروي تاريخاً وينفتح على خيال بعيد، وللزليج المغربي ألف حكاية وحكاية، نطالع بعضاً من سطورها على كل شيء في المغرب تقريباً، من بيوت البسطاء إلى أبهى وأفخم القصور، في الشوارع العادية والأماكن التاريخية والأثرية، فهو حرفة المغربي الأثيرة وصنعته الخاصة، التي يمتلك أسرارها وخباياها، وهو كذلك فنه الفريد وهويته البصرية التي لا تخطئها العين، ولوحته المميزة التي رسمها على وجه العالم.
إلى جانب تلك اللمسة الفنية التي تغلف كل شيء أبدع المغربي فنونه الخالصة، وعلى امتداد مساحة المغرب الجغرافية، وبين ثنايا فصول تاريخه الضارب في أعماق الزمان، تتعدد ألوان الموسيقى والإيقاع والشعر والغناء، وكذلك الرقص الذي يمارسه المغربي كطقس ثقافي أصيل له دلالاته البليغة، والمعروف أن الرقص من أول وأقدم فنون البشر، حيث جعل الإنسان من جسده أداة فنية يوصل من خلالها كل ما يريد أن يقوله ويعبر عنه، والرقص على وجه الخصوص من أكثر الفنون التي تعكس مباشرة وبصورة محددة واضحة، معالم الهوية الثقافية التي تميز شعباً عن غيره من الشعوب.


تشابه يؤكد الأصالة

في المغرب نكون مع أنواع عديدة من الرقص، ترافق تنوعاً هائلاً في الموسيقى والإيقاعات، وتعد فنون الرقص في المغرب من الفنون القديمة، ذات الجذور التاريخية البعيدة، وكما يتميز المغرب عموماً بذلك الاتصال الطبيعي المستمر بين ماضيه وحاضره، لم ينقطع المغربي عن رقصاته القديمة التي تسري دقاتها وإيقاعاتها في عروقه، وكما تدهشنا كل رقصة من فنون الرقص في المغرب لفرادتها الشديدة، وعدم تشابهها مع أي رقص آخر في بلاد العالم، يدهشنا أحياناً رقص مغربي بتشابهه مع رقص آخر، والتشابه هنا يؤكد الأصالة لا الاستنساخ، ويظهر جانباً من جوانب القوة الثقافية اتساقاً مع حركة الزمن والتاريخ. هذا النوع من الرقص المغربي الذي يتشابه مع رقص آخر هو رقص القعدة، الذي يؤديه الرجال في الغالب الأعم وكذلك تؤديه النساء في بعض الأحيان. عندما يشاهد المرء رقص القعدة يستحضر ذهنه على الفور رقص الفلامنكو الأكثر شهرة وعالمية بطبيعة الحال، ويشعر أنه أمام الأصل القديم لهذا الفن، يطالع الصورة الأولية له أو منبعه الأساسي، فلا تخفى الجذور المورية لفن الفلامنكو منذ عهد الأندلس، ليس في الحركة فقط وإنما في اشتقاق الاسم أيضاً، الذي هو في الأصل «فلاح منكوب» حيث الطرد من الأندلس والعودة إلى المغرب.
رقص القعدة المغربي رقص إيقاعي يضرب بالأقدام ضربات سريعة متلاحقة تخلق إيقاعاً متميزاً، على ماذا تضرب الأقدام؟ هل تضرب على خشبة المسرح أو على لوح خشبي كالفلامنكو في بعض الأحيان؟ لا.. يضرب راقص القعدة بقدميه على «القعدة» التي تنسب إليها الرقصة، والقعدة يمكن وصفها بالآلة الإيقاعية وبمنصة الرقص، وبالحيز الذي يلتزم به الراقص خلال أدائه، فهي مسرحه الصغير المحدود الذي يقف عليه أمام الجمهور. قد تشبه القعدة الدف الضخم المرتفع عن الأرض، لكن القعدة في أصلها البعيد كانت إناء لغسيل الملابس، وفي أوقات الفن والمرح كانت تقلب على وجهها وتتحول إلى منصة للرقص وإلى آلة لخلق الإيقاع. يختلف إيقاع القعدة عن إيقاع الفلامنكو، وكذلك تختلف وضعية الجسد قليلاً، خصوصاً وضعية الذراعين، كما يبدو رقص القعدة المغربي أكثر سرعة واشتعالاً وقوة في ضربات الأقدام المتلاحقة، وله دائماً ذلك الطابع الخاص الذي يميزه عن الفلامنكو وأنواع الكلاكيت والرقص الإيقاعي كافة. يقف الراقص المغربي فوق القعدة ويبدأ ببضع ضربات هادئة بطيئة، كأنه يمهد للإقلاع والانطلاق، وبالفعل يصعد بالمتفرج نحو إيقاع سريع للغاية وهو يستمع إلى دقات قدمي الراقص، ويتابع حركتهما السريعة التي تستوجب تحكماً عصبياً شديداً من الراقص، إلى جانب الانضباط الموسيقي الداخلي.
يصنع راقص القعدة فناً بلغة يجيدها، ويكون جسده هو الأداة التي يستخدمها وتكون القعدة آلته الإيقاعية، وهو يعكس من خلال هذا الفن ثقافة كاملة وتاريخا قديما يغري بالمزيد من البحث والتقصي. يبدو رقص القعدة المغربي فناً في مادته الخام محتفظاً بفطرته الأولى ولحظة إبداعه التلقائي، وهناك بالطبع محاولات لتقديمه بأشكال جديدة مختلفة، وتطويعه ضمن عروض فنية ومسرحية بمصاحبة الغناء. وكثيراً ما يلتقي رقص القعدة المغربي برقص الفلامنكو الإسباني، ليقف كل منهما أمام الآخر ويشعر بصلات القربي وأواصر الحنين، كصديقين قديمين التقيا بعد غياب طويل، وقد نرى الفلامنكو فرعاً يحن إلى الأصل، ونرى رقص القعدة أصلاً يضم الفرع ويحتويه.

مروة صلاح متولي كاتبة مصرية

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات