كانت مقبرة فتحولت إلى ممر مشاة. بدل أن يحترم الناس حرمة ساكنيها، قرروا الدوس على قبورها. بدل الالتفاف حول سورها، ثم مواصلة سيرهم، فضلوا استباحتها، وجعلوا منها طريقاً مختصرة في مقصدهم. جرى فيها نبش قبور بعدما طافت شائعات بين الألسنة؛ إن الفرنسيين كانوا يدفنون مع الجثمان أثمن الأشياء، أطقم أسنان من ذهب، وكذا الماس ومجوهرات. نحن نعرف حرفة حفار القبور، لكننا اخترعنا في الجزائر حرفة جديدة، في تسعينيات القرن الماضي: نابش القبور. وهو شخص يتسلح بمعول ومجرفة، ويصل إلى عمله في وضح النهار، لا يخشى من يلومه على فعلته، ولا يرجو ظلمة، لأن مهمته لم يكن القانون يحاسبه عليها. يشرع في عمله، بحثاً عن الغنائم، وصارت القبور مثل صدور مفتوحة. لم يعثر الباحثون عن الذهب عما يرجون الوصول إليه، ولم يهتموا بإعادة القبور إلى حالتها، بل تركوا الرفات مشتتة في المكان. إلى أن تكرم واحد من الطيبين، والتقط العظام ثم طمرها. لم يطمرها تحت التراب، بل حفر فجوات في حائط المقبرة، وصار المشهد مثل خزانة من إسمنت تعرض عظام الراحلين.
ظننت أن لصوص القبور سوف يهجرون ذلك المكان، لكنهم أصروا على المكوث فيه، بل جعلوا منه مرتعاً في تربية الكلاب. في ثقافتنا، الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، هكذا يقولون. لذلك بات الحل هيناً، في تربية الكلاب في مقبرة المسيحيين. كانت تلك المقبرة أشبه ما تكون أرضاً محررة، يختبئ بين جنباتها مراهقون، أو بالأحرى يقيمون بين جنباتها. من لا مأوى له كان يفترش حصيرة جنب قبر. ويحصل أن يواعد فيها خليلته على عجل. ويعيش رعشات الحب تحت أعين الموتى.
في تلك المقبرة، كان مراهقون يتذوقون لفافة حشيش، لأنهم يعلمون أن أولياءهم لا يأتون إليها. صارت تلك المقبرة مكاناً للأحياء بعدما كانت حكراً على الموتى. كأن المراهقين لم يجدوا مكاناً يرأف بحالهم أفضل من مجاورة الغائبين. حصل أن استيقظ الناس، ذات صباح، على خبر ملأ الأسماع. لقد عثروا على جنين في المقبرة. إحداهن أجهضت ولأن الإجهاض يعاقب عليه القانون ولا تتساهل معه الأعراف، فقد تخلصت من جنينها بين القبور. في تلك المقبرة كذلك كان يختبئ تجار الحشيش والممنوعات، يهرعون إليها كلما سمعوا صفارات سيارات الأمن. وهناك حصل أن توارت جماعة إرهابية، بعدما أتمت مهمتها في خطف أرواح الأبرياء، سنين العشرية السوداء. كانت المقبرة مكاناً للموتى لكنها تحولت إلى ملجأ للأحياء. مسلمون يلجؤون إلى مقبرة المسيحيين في قضاء حاجاتهم أو إخفاء أخرى. دام الحال كذلك إلى مطلع الألفية الجديدة، عندما وقعت فرنسا والجزائر اتفاقية حماية المقابر المسيحية.
حرب على القبور
عقب حرب التحرير، غادر الفرنسيون البلاد. خلفوا بيوتهم، أثاثهم، طفولتهم، ذكرياتهم، وكذلك موتاهم. كان يفترض أن الحرب اندلعت وانتهت ضد الأحياء، وأن الموتى لا دخل لهم في تبعاتها، ولا يد لهم فيما حصل. لكن لم يكن يوجد قانون يشرح علاقة الأحياء بالموتى الباقين. كانت السلطة مهتمة في سن قوانين تحمي سيادتها، وتتيح لها استعادة الحق في البترول. لا أحد اهتم بشؤون الموتى.. وتلك المقبرة التي أحكي عنها هي واحدة من مقابرة أخرى مثلها، سادت فيها ممارسات مشابهة. ظن الناس أن الرفات من زمن مضى، وأن الماضي لا يُحاسب عليه أحد. لا أحد يُحاسب شخصاً يدوس الماضي، هكذا كانوا يفكرون، مع أن الإسلام يضمن حرمة الميت، بغض النظر عن عقيدته أو دينه. صارت تلك المقبرة حقاً مشاعاً لأن ذوي الموتى قد غادروا. ومن يغادر يفقد مكانه، هكذا يقول المثل الشعبي، ولا تصح له العودة إليه. ثم جاءت الأساطير في تعزيز سطوة الأحياء على الأموات. لم يكن هناك شخص حكيم يحيل الناس إلى رشدهم، فاستسلموا إلى أساطيرهم، والناس يسهل عليهم تصديق الأسطورة بدل البحث عن الحقيقة. يريحهم ما يجري تداوله بالألسنة بدل إعمال العقل. ظنوا أن مقابر الآخرين تخفي أشياء أخرى، وصدقوا تلك المقولة. لأن الأسطورة هي التي تحرك غريزة البشر صوب الحق أو المنكر. ولأننا في مجتمع جزائري، حيث الثقافة الشفوية أقوى سطوة من الثقافة المكتوبة، سار الناس خلف أوهامهم، وحولوا المقبرة إلى مختبر للتحري من جدوى ما يسمعونه من أقاويل. وحصل مرة، بعد العثور على جنين بين القبور، أن طفلاً لم يتعلم الكلام بما فيه الكفاية، ونطق خطأ، فجاء أهالي البلدة، في اليوم التالي، في زيارة المقبرة. ظنوا أنهم قد عثروا فيها على قزم وليس جنيناً. وتطلب الأمر أسبوعاً كاملاً في إقناعهم أن الأمر يتعلق بجنين وليس بأقزام، مثل التي شاهدوها في التلفزيون. تلك المقبرة تحولت إلى مصنع خرافات، ولأن لا حارس لها، فالجميع ظن أن له حق في ملكيتها.
عودة حارس المقبرة
عندما حل جاك شيراك في الجزائر، مطلع الألفية، كانت من بين الأولويات التي جاء من أجلها هي توقيع اتفاقية يترتب عنها حماية مقابر الفرنسيين. فقد كانت الجزائر تحصي ما يناهز 135 مقبرة مسيحية، لكن العدد تقلص عقب الجمع بين المقابر، وضم بعضها إلى بعض. وقد كلف مشروع حماية وإعادة تهيئة المقابر غلافاً مالياً يقدر بحوالي المليون ونصف المليون يورو. عقب هذه الاتفاقية، تغير شكل المقبرة التي تحدثنا عنها. ارتفع من حولها سور جديد، بعدما تهاوى السور القديم، وتخلصت من المتطفلين والعابثين. جرى ترميمها، ووظف شخص في حراستها، ولم يتكرر أن تردد على المكان لا مراهقون ولا راغبون في لفافة حشيش ولا فارون من الأمن أو من القضاء. استعادت المقبرة حصانتها، وعاد إليها صمت الموتى، وهم يستريحون في خلوتهم. مع ذلك فإن علاقة الناس مع المقابر لا تزال خاضعة إلى الخرافات. فبعدما عادت إلى المقبرة المسيحية هيبتها، صارت القصص تتصاعد من مقبرة المسلمين. نسمع من حين لآخر عن العثور على طلاسم، أو أن أحداً تسلل إليها ليلاً، يرغب في استخراج رفات. يبدو أن الأرض بما شسعت لم تعد تكفي الأحياء، فصاروا يزاحمون الموتى في رقادهم.
سعيد خطيبي
تعليقات الزوار
لا تعليقات