لم تتغيّر دمشق كثيراً عما كانت عليه قبل الثورة. ما بدا جديداً في عاصمة الأمويين، كان «عبق» الحرية الذي تسلّل إلى نفوس ساكنيها مع نسيم فجر أمس الأحد، وتحديداً بعد إقلاع الطائرة الخاصة التي حملت بشار الأسد إلى جهة مجهولة.
الرحلة من بيروت إلى قلب العاصمة دمشق لم تستغرق أكثر من ساعة ونصف. الطرقات شبه خالية من بيروت حتى منطقة المصنع الحدودية. هناك، الأمن العام اللبناني كان يخطر العابرين إلى الداخل السوري بأنّ لا نقاط أمنية سورية رسمية، فيدعو العابرين إلى «توخي الحذر».
احتفال وتهليل
في تلك النقطة الحدودية تجمّع مواطنون سوريون ولبنانيون على جانبي الطريق. حضروا للاحتفال والتهليل أمام شاشات الكاميرات التي أقبلت إلى منطقة البقاع من أجل رصد تفاعل السوريين مع الحدث الجلل، وسط تسجيل حركة دخول خجولة إلى داخل الأراضي السورية.
مع عبور الحدود بمئات الأمتار، تظهر لك رقعة أسفلت سوداء جديدة، وهي مكان الحفرة التي أحدثتها غارة إسرائيلية قبل أسابيع من أجل قطع الطريق الإمداد العسكري المفترض من النظام السوري إلى «حزب الله» اللبناني.
عشرات الأمتار الإضافية تفصلك عن نقطة الحدود والجمارك السورية. هناك لم تسلم أيّ صورة من صور رجالات النظام المخلوع، كلها مسحولة وممزقة ومتناثرة أرضاً وحولها الكثير من البزات العسكرية المرمية على قارعة الطريق، والتي تعود فيما يبدو إلى عناصر النظام الذين فروا تاركين نقاط تمركزهم.
أولى نقاط التفتيش على طريق بيروت ـ الشام بعد الجمارك السورية، كانت نقطة «الفرقة الرابعة» التي تستقبل المقبلين من لبنان قبل دخول دمشق. تلك النقطة هي الأخرى خالية تماماً. لا عناصر عند الحاجز، بينما الآليات التي كانت متمركزة هناك مبعثرة على الطريق: دبابة مهجورة يميناً وشاحنة محترقة في المقلب الآخر من الطريق يساراً.
مسلحو الفصائل السورية منتشرون على طول الطرقات الفاصلة بين لبنان ودمشق. بينهم شبان مدنيين يستقلون دراجات نارية وشاحنات صغيرة يحملون ما تيسّر حمله من بضائع كانت في المنطقة الحرة أو في قصور النظام في منطقة «مزارع يعفور» الشهيرة.
الوصول من ريف دمشق إلى قصر المهاجرين، لم يستغرق أكثر من 5 دقائق. الطرقات فارغة ما خلا مقاتلي المعارضة عند أبواب القصر الحديدية المزخرفة. كان المسلحون يحاولون إقفال البوابة من خلال وصلها بكهرباء لمنع المواطنين من دخول القصر المهجور مع اقتراب موعد «حظر التجوّل» (الساعة الرابعة بعد الظهر).
كان المسلحون يحضون المواطنين السوريين الذين دخلوا إلى القصر، على الخروج منه قبل إقفال البوابات. رجال ونساء وأطفال حضروا إلى القصر لمعاينة المكان.
تخرج سيارة من باحة القصر محملة بالسجاد الأحمر والمعدات الكهربائية، فيعترضها أحد العناصر بكل هدوء، ويقول لسائقها: «أرجوك حجّي. هذه أموال الشعب. توقف جانباً وأفرغ كل ما تحمله لو سمحت». يمتثل الرجل بلا جدال أو اعتراض. يقول مسلح آخر لرجل حضر مع ابنه الشاب لزيارة القصة: «عمّي، والله من بكرا صباحاً أبواب القصر مفتوحة أمام الجميع.. تعال وأنا بإيدي بدخلك. بس هلق خلص».
أمّا مرآب سيارات الأسد وعائلته في منطقة المالكي، فهو الآخر كان يعجّ بالمسلحين والمواطنين المدنيين الذين حضروا من أجل إلقاء نظرة على أرتال السيارات أو من أجل «الغنائم». يجلس طفلاً عند مفرق المرآب، ويحذر المارة: «انتبهوا. هناك إطلاق رصاص في الداخل وبعض الناس يتقاتلون على الأدوات الكهربائية بقوة السلاح».
شبه خالية
من قصر المهاجرين إلى ساحة الأمويين الطرقات على المنوال نفسه شبه خالية. لكنّ المفاجأة الكبرى تنتظرك في تلك الساحة، حيث الطرقات مفروشة بحشوات الطلقات النارية النحاسية الفارغة. مثل سجادة حيكت بالبارود. إطلاق الرصاص ابتهاجاً ومن كل أنواع الأعيرة النارية لم يتوقف منذ ساعات الصباح الأولى، واستمر حتى المساء.
على جانب الطريق ركن مقاتلو المعارضة دبابة صادروها من عناصر النظام الذي فروا بلا أيّ مقاومة، حيث يتجمّع الناس لالتقاط الصور التذكارية التي سيسجّلها التاريخ الحديث وستبقى في ذاكرة السوريين لعقود مقبلة.
يقول أحد المقاتلين المقبلين من مدينة درعا حاملاً رشاشاً من نوع «كلاشنيكوف»: «وصلنا فجراً إلى دمشق ولم نلقَ أيّ مقاومة. جنود النظام كانوا يسلّموننا أسلحتهم الفردية ويفرون مدبرين». ويضيف: «جئنا لنحتفل بسقوط هذا النظام الذي أذاقنا الويلات لسنوات».
مسلحّ آخر حضر من منطقة القنيطرة الجنوبية، يعترف أنّ التحدي الأكبر أمام أيّ سلطة سياسية ستبصر النور بعد سقوط الأسد، سيكون «ضبط الأمن وجمع الأسلحة المنتشرة بين أيدي الناس».
أما عن السرقات فيقرّ أن هذا الأمر «طبيعي جداً» في ظل «نظام جائر وشعب جائع».
يقاطعه مراسل إحدى المحطات العربية بالقول «لو سمحتم يا شباب، علينا تنظيم السير في الساحة سريعاً. دقائق ويدخل حظر التجول حيث التنفيذ. نريد أن ننقل صورة مباشرة».
اللافت في كل تلك الصورة، كان غياب أهل الشام. فأغلب المسلحين والمحتفلين حضروا من خارج العاصمة، بينما لازم الدمشقيون منازلهم خوفاً من أي حدث أمني. في منطقة باب توما المسيحية كان الحذر سيد الموقف. حيث يقف الشبان خلف الأبواب ويدققون في شكل المارة خوفاً من تعديات مفترضة. لكن ذلك لم يحصل، إذ لم يُسجل أي حدث أو اعتداء.
في باب توما، يقول إدوار، وهو مالك أحد فنادق في المنطقة: «لمسنا تطمينات في حلب. هناك بعث المسلحون لسائر سكان المدينة رسائل تؤكد أنّ لا اعتداءات على أحد وهذا سينسحب كذلك على العاصمة دمشق». ويضيف: «نحن حذرون لكنّنا مطمأنون. لأنّ مفتعل المشكلات والأزمات قد رحل أخيراً».
تعليقات الزوار
لا تعليقات