قبل أسبوع من اليوم، تسابقت التلفزيونات والصحف الغربيّة لنقل خبر مكالمة هاتفيّة أجراها المستشار الألماني، أولاف شولتز، دون مقدمات، مع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، وذلك بعد أكثر من عامين على انقطاع التواصل بينهما. التصريحات الرسميّة قالت إن شولتز أكد لبوتين على ضرورة الانسحاب من الأراضي التي تسيطر عليها روسيا في مناطق شرقي أوكرانيا، وأن الرئيس الروسيّ بدا غير مهتم بالتفاوض حول ذلك.
تفاءل حينئذ بعض المراقبين، إذ وضعوا المكالمة النادرة، ورغم أنها لم تسفر عن شيء ملموس، في إطار أجواء إيجابيّة جلبها انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لولاية ثانية، وهو الذي كان تعهد خلال حملته الانتخابيّة بالتوسط لإنهاء الحرب سريعاً في أوكرانيا وحتى قبل تسّلم مفاتيح البيت الأبيض في بداية العام المقبل.
وبدت المكالمة، وفق هذه النظرة المتفائلة، وكأنها إطلاق لعملية (تذويب الجليد) استعداداً للمرحلة التالية، لا سيّما وأن ألمانيا ظلت رغم مشاركتها في حصار روسيا ودعمها المالي والعسكري الكبير لحكومة كييف، أقل الحلفاء الأوروبيين الكبار حماسة لتوسيع نطاق الحرب التي أنهكت الاقتصاد الألماني، وتكاد بشكل غير مباشر تتسبب بفقدان الائتلاف الحاكم هناك مقاليد السلطة.
ثم كانت الصاعقة:باسم الرئيس الخرف
لكن كل هذا التفاؤل ما لبث أن تبدد كسحابة صيف عابرة بعد أن كشفت الصحف الأمريكيّة ووكالات الأنباء عن قرار اتخذه الرئيس الأمريكي الخرف، الذي لم يجده الأطباء مؤهلاً حتى لخوض الانتخابات، بإطلاق يد القوات المسلحة الأوكرانيّة باستعمال الصواريخ الأمريكيّة طويلة المدى لاستهداف مواقع داخل الأراضي الروسية، قبل أن يلحقه بقرار آخر يتيح من خلاله تسليم كييف ألغاماً مضادة للأفراد محرمة دولياً بهدف مساعدتها على إبطاء زخم الهجوم الروسي عليها. وما لبث البريطانيون والفرنسيون، الأشد حماسة للحرب، أن حذوا حذو الرئيس، وسمحوا بدورهم – بشكل ضمني دون إعلان محدد – لأوكرانيا باستخدام الصواريخ طويلة المدى التي زودوا كييف بها منذ عدة أشهر لقصف أهداف في العمق الروسي.
بالطبع، فإن هذا الخطوة التي أقدم عليها الأمريكي وحلفاؤه تعد أعلى مستوى من تدرجات استراتيجية التصعيد التدريجي الذي اعتمده الغرب للانخراط في الحرب الأوكرانيّة مع تجنب تورطه في حرب مباشرة مع موسكو، وتقرأ كتحد مقصود لتحذيرات علنية أطلقها الرئيس الروسيّ في أيلول / سبتمبر الماضي ذهب فيها إلى اعتبار نقل هذه الصواريخ إلى الجانب الأوكراني بمثابة تغيير لطبيعة الصراع ومشاركة فاعلة للغرب فيه تتطلب رداً روسياً على المستوى ذاته.
وهكذا تبيّن، أن مكالمة شولتز مع بوتين، ربما لم تكن سوى استباق ألماني لهذه الخطوة الأمريكيّة، التي من شأنها أن تحقق أعلى درجات الاستفزاز للكرملين وقد تجلب ردوداً غير محددة من الدولة صاحبة أكبر منظومة سلاح نووي في العالم، ويبدو أن المستشار أراد تجنيب بلاده العواقب المحتملة لهكذا رد، لا سيّما وأن الحكومة الألمانية أعلنت أن القرار الأمريكي ليس موفقاً، وأنها لن تشارك بحفلة الجنون هذه بصواريخها من طراز توروس – الأبعد مدى من الصواريخ الأمريكيّة – ويتلهف الأوكرانيون للحصول عليها.
رد أوليّ من موسكو: عقيدة نووية محدثة
من المؤكد أن قرار إدارة الرئيس الأمريكي ليس وليد اللحظة، لأن الصواريخ موضوع الجدل كانت أرسلت لكييف منذ بعض الوقت، وتم بالفعل تجهيز أنظمة التوجيه الأمريكية التي سترسل بها إلى أهدافها، ولا بدّ أن روسيا بدورها تابعت تلك التحضيرات، وتحوطت لها، لا بل وعمل الخبراء القانونيون مع نظرائهم العسكريين على عقيدة نووية محدثة للجيش الروسيّ تتيح استخدام أسلحة الدّمار الشامل في حال تعرضت روسيا أو حليفتها بيلاروس إلى هجوم مدعوم من دولة ثالثة نووية حتى لو كان بأسلحة تقليدية، وتم الإعلان عن تصديق الرئيس بوتين عليها في ذات اليوم الذي تسربت فيه أخبار القرار الأمريكي.
والسؤال الآن الذي يتردد على كل الشاشات حول العالم هل سيرد الروس بسلاح نووي تكتيكي على الاستفزازات الأمريكية، لا سيما وأن القوات المسلحة الأوكرانية شرعت لتوها بتوجيه الصواريخ الأمريكية والبريطانية ضد أهداف داخل روسيا. وهل ستكون هديّة الإدارة الديمقراطية المنتهية ولايتها للرئيس العائد ترامب (كعكة) نووية تنفجر بالعالم على عيد الميلاد – كريسماس – الآتي؟
الديمقراطية المزيفة: فاسد في قلب الدولة الأمريكيّة
العارفون بكواليس واشنطن يدركون تمام الإدراك أن بايدن لم يعد عقلياً مؤهلاً على اتخاذ قرارات، لا سيما في ما يتعلق بشؤون الأمن القومي وفتح البوابات أمام صراع نووي عالمي. لكن في الإدارة الديمقراطية ثمة مجموعة من المهووسين بالحرب من رعاة الإبادة في غزة الذين يديرون بيروقراطية الدولة الأمريكيّة ممن صدمتهم الهزيمة القاسية التي جرّعها لهم مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، وهم يستغلون غياب بايدن عن الوعي لتمرير كرة لهب إلى الإدارة الجديدة من خلال أخذ التصعيد مع روسيا إلى أقصاه، بحيث لا يعد ممكناً لخطط ترامب بفرض سلام الأمر الواقع على أوكرانيا أن تتحقق. ولا يرتدع هؤلاء بخطر توسع نطاق الحرب، ولا يرتجف لهم جفن لو تضاعفت أعداد ضحاياها من الأوكران والروس – على حد سواء – ويرضيهم أن يتابعوا احتمال تحولها إلى حرب نووية عالمية لا تبقى ولا تذر.
هؤلاء المهووسون بالقتل، ليسوا شخصيات خيالية. بل هم موجودون في مختلف مفاصل الدولة الأمريكيّة وكان ديفيد روثكوف قد تبجح في كتاب له صدر في العام 2022 (المقاومة الأمريكيّة: كيف أنقذت الدّولة العميقة الأمة) عن العمل التخريبي المنظم الذي قام به هؤلاء ضد إدارة الرئيس ترامب في ولايته الأولى، وكيف أنهم تسببوا بإعاقة مشاريعه. ويبدو أن هؤلاء يعلمون الآن بأن ترامب سيأتي للانتقام منهم، وأنه سيطيح بهم خارج مناصبهم إن لم يحاكمهم بتهمة الخيانة، ولذا يستعجلون خراب العالم.
في زمن الإبادة: الزعماء العقلاء نعمة
الكرة كما تقول الكليشيه هي الآن في ملعب الكرملين، وسيكون شكل الاستجابة الروسية للتصعيد الأمريكي البريطاني الفرنسي حاسماً في السماح لثلة المهووسين بتحقيق غاياتهم المجرمة.
ربما ليس الرئيس بوتين بحمامة سلام، كما أن ترامب بشعبويته الفارغة ليس منقذ البشرية، لكن الرّهان اللحظي الآن أن يتغلب العقل عند هذين الزعيمين لشراء الوقت وتمرير على من يوظفون خرف الرئيس بايدن في أسابيع ولايته الأخيرة لتوسيع نطاق الحرب.
سترد روسيا حتماً، لكن بوتين ليس من أصحاب الأفعال المتسرعة، وثمة أمريكيين كثر سيحاولون التصدي لتهور المهووسين في الإدارة الديمقراطية واحترام إرادة الشعب الأمريكي الذي اختار ترامب بناء على وعده بوقف الحروب، ضمن أشياء أخرى. لكن لا ضمانات لأحد، ولحين انتهاء ولاية بايدن راعي الإبادة في غزة، فسنعيش جميعنا في هذه القرية بحجم الكوكب، على حافة جرف نووي هار.
ندى حطيط
تعليقات الزوار
لا تعليقات