أخبار عاجلة

أحمد غزالي يعتبر التعليم أهم ثروة لدى الجزائر الجديدة

لم يكن أهالي مدينة ندرومة الجزائرية يتوقعون أن يخرج من مدينتهم مهندس أهله مساره الدراسي والعملي ليصبح رئيسا لأكبر مؤسسة اقتصادية في البلد، شركة «سوناطراك» النفطية، ثم وزيرا للنفط على مدى 14 عاما، قبل أن يُعين رئيسا للحكومة في فترة حرجة هي الحرب الأهلية بين الجيش والجماعات المسلحة. عن بعض خلفيات الأزمات الداخلية التي عرفتها الجزائر، ومواقف دبلوماسيتها من الأزمات الخارجية، وخاصة منها حرب الخليج الثانية، يتحدث المهندس والوزير ورئيس الحكومة سيد أحمد غزالي في هذا الحوار:
○ أين نشأت؟
• وُلدت في مدينة تيغنيف في منطقة معسكر، وأجدادي من الوالدة ينحدرون من هذه المنطقة، وهم أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري. أما أجدادي للوالد فهم من ندرومة، على الحدود الغربية للجزائر، وهي مدينة عبد المؤمن بن علي، مؤسس الدولة الموحدية، الذي حكم منها المغرب العربي الكبير.
○ هل أثرت هذه النشأة في ميولك لما نضجت؟
• كان والدي مدرسا للغة العربية، ولذلك أتيح لي أن أتعلم لغة أخرى قبل لغة فولتير. وقد درست المرحلة الابتدائية في ندرومة، والثانوية في تلمسان ووهران. ثم وجهوني إلى شعبة «الرياضيات الخاصة» في إطار إعدادي لمتابعة الدراسة في كليات الهندسة الفرنسية.
○ هل تذكر أسماء زملاء درسوا معك في تلك المرحلة؟
• هم قلة قليلة لأن عدد الجزائريين الذين يصلون إلى تلك المرحلة المتقدمة، ضئيلٌ جدا، ففي شعبتي مثلا كنا اثنين فقط. ثم انتقلت إلى الدراسة في مدرسة «الجسور والطرقات» الفرنسية الشهيرة، وكنا ثلاثة جزائريين وستة تونسيين فقط.
○ وكيف بدأت مسيرتك السياسية؟ هل هناك حدثٌ ما دفعك إلى السباحة في بحورها؟
• ليس هناك حدثٌ محددٌ، وإنما كان أبناء جيلي يفهمون السياسة على أنها شكل من أشكال خدمة الوطن. كنا شبابا، وكنا نشعر بالألم والقهر لأن بلدنا يرسف في قيود الاستعمار. كانت الطريقة الوحيدة الناجعة لاسترداد الحقوق هي الكفاح الذي كانت تقوده جبهة التحرير الوطني، من أجل الاستقلال، والاستقلالُ هو أداة استعادة الكرامة.
○ متى أكملت الدراسة وعدت إلى الجزائر؟
• في سنة الاستقلال (1962) وطبعا كنا مُتحزبين منذ أيام الجامعة. وعندما عدت إلى الوطن، كنا أربعة مهندسين جزائريين فقط. ولذا كلفتني الحكومة بقطاع النفط، فكان وجودي في هذا الموقع من باب الصُدف.
○ وكيف كانت علاقتك مع الجيل الأول؟
• لم أتعرف على زعماء جبهة التحرير الوطني، لأنهم كانوا يقيمون في تونس، لكني تمكنت من التعرف على القياديين أحمد بن بلة ورابح بيطاط ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف، لأنهم كانوا مسجونين في فرنسا، وكنت أزورهم بوصفي مسؤولا في الاتحاد الوطني لطلاب الجزائر. طبعا كانوا أكبر مني سنا، فبن بلة مثلا يكبرني بـ26 أو 27 سنة.

○ متى التحقت بشركة «سوناطراك» التي توليت إدارتها في مرحلة لاحقة؟
• أنا من أنشأ مديرية المحروقات المركزية في وزارة الصناعة، وتعرفت أثناء عملي فيها، على بعض الإخوة من ذوي الكفاءة، فأسستُ معهم «سوناطراك» بموجب مرسوم صدر في كانون الأول/ديسمبر 1963 أي بعد سنة فقط من الحصول على الاستقلال. بعد ذلك قرر الرئيس بن بلة (1962-1965) إدخالي إلى الحكومة، فعينني كاتب دولة (وكيل وزارة) للأشغال العامة، ولم أكن تجاوزتُ السادسة والعشرين. اضطُررت طبعا لمغادرة سوناطراك ووزارة الصناعة، إلى منصبي الجديد، وقد أتاح لي ذلك المنصب زيارة عدة بلدان عربية.
بعد الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع الراحل هواري بومدين، مُطيحا ببن بلة في 1965 كانت تلك تجربتي الأولى في المجال السياسي، إذ عرفتُ جانبها السلبي، فقد كنت الوزير الوحيد غير السياسي بين أعضاء حكومة بن بلة، ومع ذلك كنت الوحيد الذي استقال من الحكومة.
○ متى استقلت؟
• يوم الانقلاب، إذ اعتُقل بن بلة ليل الجمعة/السبت التاسع عشر من حزيران/يونيو. ودعانا بومدين إلى اجتماع لمجلس الوزراء يوم الأحد، فرفضت الحضور. ثم أرسل العسكر في طلبي، فتمسكت بالرفض. كانت غاية الرئيس الجديد المحافظة على الطاقم الحكومي بكامله، وإثبات كونه عزل بن بلة لانفراده بالقرار.
ولما التقيت بومدين بعد ذلك، سألني «ما الذي دفعك للتضامن مع بن بلة؟» فأجبتُ: بن بلة ليس صديقي فهو يكبرني بأكثر من عشرين سنة، لكنه كان الرئيس الذي عينني في هذا المنصب، فلما أُبعد هو لم يعد وجودي في الحكومة شرعيا.
في الواقع لم يكن لي تأثير داخل مجلس الوزراء، لأني كنت الأصغر سنا. لكن بومدين كان حريصا على تماسك الحكومة، ومن هذه الزاوية أزعجه موقفي، فأرسل لي عديد الوزراء من بينهم عبد العزيز بوتفليقة ثم بلعيد عبد السلام. ولما أيقن أنني مُصرٌ على موقفي، قال لي «اذهب فأنت حرٌ، وعندما تعود سأعطيك أي منصب تختاره».
قدرتُ في بومدين رجولته، ففي عالمنا العربي من ليس معك فهو ضدك.
○ هل سافرت بعد ذلك؟
• بلى، غادرت البلد واستمر غيابي عنه ثلاثة أو أربعة أشهر، والطريف أنني اخترتُ السفر إلى أبعد مكان عن الجزائر، فهو يقع على بعد 400 كيلومتر شمال العاصمة السويدية ستوكهولم. ولما عُدت إلى الجزائر، عينني بومدين رئيسا لشركة سوناطراك في السنة نفسها 1965. دخلت المؤسسة وكان فيها ثلاثة موظفين فقط، وغادرتها بعد 15 سنة، وهي تضم 120 ألف شخص. وفي العام 1977 عينني بومدين وزيرا للطاقة، لكن الفرق بين المنصبين لم يكن كبيرا بالنسبة لي. وفي أواخر 1978 توفي بومدين وخلفه الشاذلي بن جديد، فنقلني إلى وزارة الري. وسرعان ما قدمت استقالتي بعد بضعة شهور…
○ لماذا؟
• بدأ الهجوم على بومدين وعهده، فلم أقبل بذلك من باب الوفاء للرجل. لكن في سنة 1980 تم إقصائي من «جبهة التحرير الوطني» (الحزب الحاكم) بمعية بوتفليقة وبلعيد عبد السلام.
○ هل اعتبروكم بومدينيين؟
• أجل، والمفارقة أنهم نعتوني بكوني من أنصار بن بلة لما استقلت في 1965 ثم نعتوني بكوني من أنصار بومدين، عندما استقلتُ في أواخر السبعينات، مع أني لم أكن رجل بومدين، وإنما هو رئيس الدولة بكل بساطة، وأنا فخور بكوني عملت معه.
في أعقاب أحداث تشرين الأول/اكتوبر 1988 (مظاهرات ضد نظام الحزب الواحد) دُعيتُ لتولي منصب وزير المال في حكومة قاصدي مرباح، بعدما كنت سفيرا في بروكسيل.
○ ما هو أصعب موقع سياسي وجدت نفسك فيه؟
• جميع المسؤوليات التي تقلدتُها لم تكن سياسية، من وزير الطاقة إلى وزير الري إلى وزير المال، لكن الموقع الصعب كان وزير الخارجية، لأنه تزامن مع أزمتين كبيرتين هما أزمة لبنان وحرب الخليج الثانية في أعقاب الاجتياح العراقي للكويت 1990. عشتُ الأزمة الأخيرة في عزلة، لأن رئيس الدولة (بن جديد) كان شبه مستقيل، وكان علي أن أتدبر أموري كوزير للخارجية بمفردي.
أدانت الجزائر الاجتياح العراقي للكويت، وهذا موقف لم يُعجب العراقيين. ثم أعلنا في مؤتمر القمة العربي بالقاهرة، رفضنا التدخل الأجنبي في الأزمة، تطبيقا لقرار كان وزراء الخارجية العرب اعتمدوه في اجتماع القاهرة، بُعيد الاجتياح (في 4 يوليو/تموز 1990) ويمكن تلخيصه في نقطتين هما: الطلب من العراق سحب قواته من الكويت، والرفض القاطع لأي تدخل أجنبي في الأزمة. ووافق الجميع على مشروع القرار، عدا ستة بلدان هي العراق والأردن وفلسطين وتونس واليمن والسودان. ومن ثم زرت بغداد مرات عدة لإقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، فرفض وحاولتُ أن أقنعه بأن الأمريكيين يُخططون لتدمير قوته العسكرية والاقتصادية، فكان ردُهُ أن الحرب لن تقع، ولم يتجاوب مع المسعى. كان يُردد على مسمعي أن الشعب الجزائري والشعوب العربية تقف إلى جانبه. لكن ماذا تستطيع الشعوب فعله في موقف كهذا؟ أن تضغط على حكوماتها كي ترسل الأساطيل للدفاع عن العراق؟ نحن في الجزائر مثلا، لم يكن عندنا أسطول حربي لمثل هذه الأوضاع، فماذا ينفع الدعم الآتي من الشعوب؟
تلك حقبةٌ لا تُنسى من شدة صعوبتها، فقد أمضيتُ تسعة أشهر (من اب/اغسطس إلى شباط/فبراير 1990) في عزلة مطلقة، فلا أحد تكلم معي، إن كان رئيسا أم رئيس حكومة أم وزيرا. إن كان عربيا أم أجنبيا. ثم التقيت وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر في نيويورك، في ذروة الأزمة، وشرحت له أننا وقفنا ضد الاجتياح، لكننا لا نستطيع إخراج صدام من الكويت. فاقترح علي دعوة نظيره الروسي إدوارد شيفرناندزة، ليوقع ثلاثتنا على طلب ندعو فيه إلى خروج القوات العراقية من الكويت. لكني نبهته إلى أن الجزائر ما زالت ترفض التدخل الأجنبي. وقلت لبيكر «موقفنا لا يقبله النظام العراقي، ولا يُرضي الشعب الكويتي ولا الشعب العراقي، بل ولا الشعب الجزائري» فعلق بيكر سائلا: وما هو هذا الموقف الذي لا يُرضي أحدا؟ فأجبته فورا: هو الموقف المستقل.
○ ما هو أصعب موقف عشته؟
• جئت لرئاسة الحكومة في ظل حالة طوارئ وبداية أعمال العنف من قبل الاصوليين، فكان وضعا صعبا وبالغ الدقة.
○ هل هناك موقف اتخذته وندمت عليه؟
• عموما لا أذكر، لكن أذكر أني حاولت أن أعدل القانون الانتخابي لاستبدال نظام الأكثرية بنظام النسبية، لأن نظام الأكثرية مثل لعبة البوكر، فإما أن تفوز بكافة المقاعد، وهذه كانت النتيجة الحتمية في ظل سيطرة الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطني) فمن يحصد خمسين في المئة من المقاعد زائدا مقعدا واحدا، يمكنه أن يستأثر بجميع المقاعد. وعليه يبدو النظام النسبي أقل مخاطرة وأعدل قسمة. لكن حزب جبهة التحرير، الذي كان يتمتع بالغالبية الساحقة في المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) تشبث بنظام الأكثرية لأنها تضمن له، حسب تقديره آنذاك، المحافظة على موقعه في الحكم. غير أن نتائج الانتخابات لم تكن لصالحه، ما وضع الحكومة في موقف أقلي، وكان علي في ذلك الوقت، أن أستقيل من رئاسة الحكومة. هذا هو تقريبا الموقف الذي ندمت على تصرُفي حياله، إذ قدمت استقالتي، لكن لا رئاسة الدولة ولا قيادة الجيش قبلاها، فكان ينبغي علي أن أصر على موقفي وأمضي إلى الآخر.
○ من هم الأشخاص الذين أثروا في مسارك واتخذت منهم قدوة؟
• أولهم محمد بوضياف، فبالرغم من أن الفترة التي عرفته فيها كانت قصيرة، إلا أنها كانت خصبة ومفيدة. في الواقع تعرفت عليه في المرة الأولى عندما كان في السجن مع رفاقه القياديين، قبل الاستقلال. ولم أره ثانية إلا بعد ثلاثين سنة، لدى عودته للجزائر في 1991.
○ هل تغير؟
• ظل هو هو. لم يتغير فيه سوى الشعر الأبيض. أما الدقة والصرامة والحيوية فهي ما عهدتها فيه قبل ثلاثة عقود. طبعا هو لم يعرفني معرفة عميقة، فقد كنت أذهب إليه بوصفي طالبا جزائريا في فرنسا، ثم صار بعد الاستقلال يرى في ربما، مسؤولا عمل مع بن بلة وبومدين والشاذلي بن جديد، فهو إذا من كوادر النظام. هذا هو التحليل العادي والمنطقي. لكن اللافت أن صحافيا زار بوضياف قبل شهر فقط من عودته إلى الجزائر وصعوده إلى سدة الرئاسة، وطرح عليه السؤال التالي «هل ستعود إلى السياسة؟ فرد عليه بحزم لن أعود أبدا… هذه صفحة طويتُها». وأذكر أيضا أنه لدى تعييني رئيسا للحكومة سُئل بوضياف: «ما رأيك في غزالي؟» فأجاب: «حمروش أو غزالي ما الفرق؟ إنهما متشابهان». تلك هي الفكرة التي كان يحملها عني في البدء، لكن أعرف أنها تغيرت في ما بعد.
○ لو سألتك ما هي أهم ثروة لدى الجزائر اليوم؟
• التعليم. عند الاستقلال كان 300 ألف تلميذ جزائري يدرسون في المدارس الابتدائية والثانوية، من بينهم 5 في المئة من الفتيات. واليوم صار عندنا 9.5 ملايين تلميذ وتلميذة نصفهم من الإناث. بعد الاستقلال وجدنا أن مفاصل الإدارة بأيدي فرنسيين، وهؤلاء هاجروا بكثافة عائدين إلى فرنسا، فكان علينا إعادة توزيع كفاءاتنا الوطنية على رغم قلتها، وبذلك تفادينا الفوضى والانهيار.

اضف تعليق

شارك

تعليقات الزوار

لا تعليقات