وأنا أحرر هذه الأيام أحد فصول مشروع كتابي الجديد حول سوسيولوجية النخبة الوزارية في الجزائر، أثارت انتباهي ظاهرة سياسية مهمة. تتعلق بالأدوار الكبيرة التي لعبها أبناء الأوساط الفقيرة في التاريخ السياسي للجزائر، كما كان الحال مع الرئيسين أحمد بن بلة وهواري بومدين ورئيس الحكومة مولود حمروش ورئيس الدولة والشخصية الوطنية المعروفة رابح بيطاط وغيرهم كثير، إذا اكتفينا بعالم الريف الفقير ولم نوسع نظرتنا لتشمل أبناء المدن من أصحاب المهن الحرفية الصغيرة والتجار الصغار، خلال فترتي الحركة الوطنية وثورة التحرير.. وضع عادي، وقد يقول قائل في مجتمع بمواصفات الحالة الجزائرية التي عرفت الاستعمار الاستيطاني الطويل، تم خلاله تحطيم جزء كبير من القوى المالكة في الريف والمدينة، كما أكد ذلك الكثير من الدراسات التاريخية التي اهتمت بتاريخ البلد وهي تربط بين البعدين السوسيولوجي والسياسي.
لن تمنعنا هذه الملاحظة من توسيع رؤيتنا لكي نرى ان أبناء الأغنياء كذلك كانت لهم أدوار مهمة في بعض المحطات السياسية، وأن حضورهم تميز بالاستمرارية، عكس ما يمكن ان تحيل إليه القراءة المبتورة لتاريخ الجزائر التي تمت بعد الاستقلال وأثناء الثورة، لأغراض أيديولوجية واضحة، أنجزت باسم «الأخوة الجزائرية»، وهي تحاول محو كل الفروق الاجتماعية عند الحديث عن الجزائريين، كما جاء على لسان المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجرون. في حين تقول المتابعة الموضوعية للنخب التي حكمت الجزائر بعد الاستقلال وحتى قبله، إن أبناء الأغنياء، بل الاغنياء جدا كانوا حاضرين، حتى إن لم تنتج هذه العائلات الغنية، في الغالب شخصيات قوية ومؤثرة، عكس الأوساط الشعبية الريفية الفقيرة التي قاد ابناؤها محطات مهمة من التاريخ السياسي للجزائر. الأهم من هذا الحضور الذي يمكن ملاحظته طول التاريخ السياسي للجزائر، هو التوظيف الذي قام به أبناء الفقراء لأبناء الأغنياء الذين استعملوهم في مواقع سياسية محددة، من دون أن يتمكنوا من الوصول إلى مراكز القرار المهمة التي بقت في الغالب الأعم حكرا على أبناء الفئات الفقيرة، التي قادت المسار السياسي للجزائر. وهم يستعينون بالكثير من المثقفين ـ الكتبة الذين تكفلوا بإنجاز الغطاء الأيديولوجي لهذا المشروع السياسي الذي قادوه، منذ فترة الحركة الوطنية، مرورا بحرب التحرير الى غاية الاستقلال، بكل التناقضات التي عرفها هذا المشروع الذي كان في أغلبية مراحله تحت قيادة أبناء البورجوازية الريفية الصغيرة، التي تكفلت بتسييره وتسويقه كمشروع وطني، لمختلف القوى الاجتماعية الأخرى. خير مثال على هذه الحالة ما قام به الرئيس بومدين طول حكمه الذي قارب 13 سنة، فقد وظف العقيد أحمد بن الشريف – حفيد الباشاغا والهارب من الجيش الفرنسي – الذي عرفت عائلته بملكيتها الزراعية الواسعة في منطقة الجلفة الرعوية، والذي تمكن من الوصول الى عضوية مجلس الثورة كهيئة سياسية حكمت الجزائر، وأصبح قائدا للدرك، قبل أن يتم إبعاده وتوجيهه نحو وزارة البيئة والغابات والمياه في 1977.
الدكتور عمر بوجلاب وزير الصحة – 1970-77 ينتمي إلى الفئات المالكة الغنية نفسها في منطقة التيطري، عينه الرئيس بومدين هو الآخر لتطبيق سياسة الطب المجاني، هو ابن العائلة المالكة الكبيرة، في كل منطقة الوسط، انطلاقا من ولاية المدية وصولا إلى البليدة والعاصمة. الشيء نفسه الذي قام به بومدين مع العقيد أوشيش ابن العائلة الغنية التي عرفت بقربها من الظاهرة الاستعمارية كابن قائد، كما كان حال الكثير من العائلات الغنية في الجزائر. عبد السلام بلعيد الذي طبق سياسية التصنيع «الاشتراكي» التي عرفت بها تجربة بومدين السياسية كان هو الآخر من أغنى العائلات التي تمكنت من استرجاع أملاكها على مستوى جيل الأب بعد التدهور الذي عاشته على مستوى جيل الجد، وهي تتأثر بأحداث انتفاضة المقراني الشهيرة 1871.
الذي لا يعرفه الكثير من الجزائريين أن أبناء العائلات الغنية استمروا في العمل بالقرب من بومدين ولصالحه ـ من دون أن يحبوه بالضرورة – في المواقع المهنية الممنوحة لهم، في وقت كان فيه بومدين يؤمم أملاك عائلاتهم الواسعة وهو يطبق مشروع الثورة الزراعية، الذي انطلق فيه في سبعينيات القرن الماضي وتسبب له في الكثير من المشاكل السياسية مع بعض «رفاق الدرب» الذين عارضوا المشروع، لكنهم سكتوا عنه وقبلوا به على مضض، خوفا من الحزم الذي تعامل به مع هذا المشروع إلى آخر دقيقة من حياته السياسية القصيرة. بومدين ابن الفلاح الفقير، رجل الدولة الذي لم يراع الأبعاد السوسيولوجية وهو يتعامل مع أبناء الأغنياء، ركز في المقابل على البعد الشخصي والذاتي فيها، وهو يقول للطبيب عمر بوجلاب ابن العائلة الغنية، الذي كان يناديه بالرجعي، في مزيج بين الجد والهزل.. كل الناس تشتغل مع إخوانها لماذا يمنعونني من ذلك عندما أطلب منك أنت أن تشتغل معي كأخ قبل كل شيء؟ بومدين الذي يمكن ان نستشف، عكس هذه السياسة المتبعة مع أبناء الأغنياء الذين تحالف معهم، كان حساسا جدا مع المسألة الاجتماعية في الجزائر وهو يحكم، حتى إن غلب لديه البعد الذاتي وهو يتعامل مع أصدقائه من أبناء الأغنياء. فقد استمر بومدين في موقف ذاتي هو الآخر، لكنه غير ودي هذه المرة، مع أبناء المدن الذين نظر إليهم كمستفيدين من وضع اجتماعي، كان محروما منه، هو ابن الريف الفقير، خاصة أبناء العاصمة الذين واجهوه باسم الولاية الرابعة وهو يقتحم مدينتهم على رأس جيش الحدود، في بداية الاستقلال، كما واجهوه باسم فيدرالية العاصمة لجبهة التحرير، وهو ينقلب على بن بلة في مثل هذا الشهر (يونيو/حزيران) من سنة 1965. بومدين الذي كان يرد على مدير شرطته ـ وهو يبعث له تقارير دورية عن وجود مؤشرات غضب عند أبناء العاصمة، نتيجة تدهور الوضع الاجتماعي في هذه المدينة الكبيرة، عقد كامل قبل أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988ـ لا يهمني كثيرا وضع أبناء العاصمة، أنا ابدأ أقلق فعلا عندما تكلمني عن غضب أبناء البيض أو تبسة.
علاقة بومدين بأبناء هذه الفئات الغنية التي وصفها البعض بالتحالف التكتيكي، الذي يكون قد تحول الى تحالف استراتيجي مع الوقت، وهم يركزون على مجموعة الفارين من الجيش الفرنسي التي شغلها بومدين لصالح مشروع صعوده الى السلطة منذ مرحلة جيش الحدود. مجموعة وجدت الطريق معبدا أمامها، بعد موت بومدين المفاجئ -46 سنة ـ فكان أن وصلت بسهولة ويسر الى مواقع القرار في غياب «المعلم» الذي وظفهم كأفراد فتحولوا مع الوقت إلى طبقة حاكمة، أعادت إنتاج وجودها وهي على رأس مواقع الريع التي كانت على رأس المستفيدين منها.
كاتب جزائري
ناصر جابي
تعليقات الزوار
لا تعليقات