يبدو البرلمان الجزائري جادّا هذه المرة، في سنّ قانون تجريم الاستعمار بعد عقود من التعثّر في إقرار هذا القانون. ذلك، ما تعكسه تصريحات رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، الذي أكد أن المشروع سيأخذ مجراه، استجابة لمطلب “شعبي”.
وفي أشغال اليوم الدراسي “التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر: جريمة ضد الإنسان والبيئة” الذي انعقد بالعاصمة الجزائرية، أكد بوغالي عزم المجلس فتح ملف تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وذلك استجابةً للمطلب الشعبي الملحّ، وفق ما قال. وشدّد على أن هذا الملف سيأخذ مساره الطبيعي داخل المجلس، مبرزا ضرورة المرافعة لصالح الدفاع عن حقوق الشهداء وضحايا التفجيرات النووية.
ويأتي هذا التأكيد من بوغالي بعد تصريحاته الأخيرة لقناة الشروق، والذي ذكر فيها أن “الطريق بات مفتوحاً لصياغة قانون لتجريم الاستعمار، بعد رفع السلطة السياسية تحفظاتها بشأن مقترحات سابقة لصياغة القانون”، مبرزا أنّ “الحملات العدائية الفرنسية المتواصلة التي تهدف إلى تشويه صورة وسمعة الجزائر، تستوجب طرح هذا القانون”.
وسبق للبرلمان الجزائري أن طرح قانون تجريم الاستعمار سنة 2006، كرد على قانون تمجيد الاستعمار الذي أرادت فرنسا تبنيه سنة 2005 في ظل رئاسة جاك شيراك. لكن القانون الجزائري تم تعطيله بمبررات عدة، منها عدم الرغبة في الإضرار بالعلاقات مع فرنسا، وظل يستعمل من حين لآخر كورقة ضغط جزائرية كلما تأزمت العلاقات بين البلدين، لكن دون أي إرادة حقيقية في اعتماده. وشهدت بدايات العهدة الأولى للرئيس عبد المجيد تبون، محاولات لإحياء المشروع لكن دون جدوى.
وفي سياق جرد الجرائم الاستعمارية، أكد بوغالي في كلمته خلال الملتقى الذي نظمه المجلس الشعبي الوطني، أن التفجيرات النووية التي نفذتها فرنسا في صحراء الجزائر لا تزال تُعتبر جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، مشيرًا إلى أن تداعياتها لا تزال تؤثر على صحة السكان والبيئة. كما شدد على ضرورة تصحيح المصطلحات عند الحديث عن هذه الأحداث، مشيرًا إلى أن الأمر يتعلق بـ”تفجيرات” وليست “تجارب”، إذ أن تلك العمليات لم تكن سوى وسيلة استعمارية للتدمير، استُخدم فيها الإنسان والبيئة كحقل تجارب للأسلحة الفتاكة.
وفي مداخلته، دعا بوغالي فرنسا إلى الاعتراف الرسمي بمسؤوليتها الكاملة عن هذه الجرائم، مطالبًا بأن يكون الاعتراف متبوعًا بالتزامات أخلاقية واضحة، تشمل التعويض العادل للضحايا وأسرهم، وتنظيف المواقع المتضررة من الإشعاعات والنفايات النووية، فضلًا عن تسليم الجزائر الأرشيف الكامل لمواقع التفجيرات حتى يتمكن الخبراء من تقييم الأضرار واتخاذ الإجراءات المناسبة.
واقترح رئيس المجلس الشعبي الوطني تخصيص يوم عالمي لضحايا التفجيرات النووية يتزامن مع تاريخ 13 فبراير من كل عام، ليكون تذكيرًا عالميًا بمعاناة الضحايا، ولتسليط الضوء على ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. كما اقترح تنظيم ندوة برلمانية دولية لبحث السبل القانونية لدعم الضحايا وتحقيق العدالة لهم، داعيًا برلمانات الدول التي عانت من الاستعمار والتجارب النووية إلى توحيد الجهود بشأن هذه القضية.
من جهته، وصف رئيس مجلس الأمة، صالح قوجيل، التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية بأنها “إحدى أبشع جرائم الإبادة”، مشيرًا إلى أن تداعياتها لا تزال مستمرة، حيث يواصل الضحايا المعاناة بفعل الإشعاعات التي لوثت البيئة وأثرت على صحة السكان. واعتبر الرجل الثاني في الجزائر في تغريدة له، أن ما خلفه الاستعمار لا يزال بمثابة “عار مدفون تحت الرمال”، متهمًا فرنسا بعدم تحمل مسؤولياتها التاريخية تجاه هذه الجرائم.
وفي ختام الملتقى، دعا المشاركون إلى ضرورة سن قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي ويلزم باريس بالاعتراف الرسمي بجرائمها في الجزائر، بما في ذلك التفجيرات النووية والانتهاكات الأخرى التي تعرض لها الشعب الجزائري. وأوصوا بالضغط على فرنسا لتقديم تعويضات عادلة للضحايا، ودعمهم في رفع دعاوى أمام المحاكم الدولية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
كما أكدوا على أهمية توثيق الشهادات الحية للضحايا والمجاهدين الذين عايشوا فترة التفجيرات، وإدراجها ضمن الأرشيف الوطني لحفظ الذاكرة الجماعية. وفي إطار الجهود العلمية والطبية، اقترح المشاركون إنشاء مركز وطني للذاكرة النووية يعنى بدراسة الآثار البيئية والصحية لهذه التفجيرات، مع إطلاق دراسات ميدانية دورية لمتابعة الوضع الصحي للسكان المتضررين وتوفير دعم طبي خاص لهم.
ولترسيخ الوعي بهذه القضية، شدد الحاضرون على ضرورة إدراج ملف التفجيرات النووية في المناهج التعليمية، وتشجيع الإنتاج السينمائي والعلمي الذي يوثق هذه الجريمة ويبرز تأثيرها الكارثي على الإنسان والبيئة، لضمان عدم نسيان هذه الصفحة السوداء من التاريخ الاستعماري الفرنسي.
وكانت 30 منظمة دولية، تزامنا مع الذكرى الـ65 لأول تجربة نووية فرنسية في الصحراء الجزائرية تحت الاسم الرمزي “اليربوع الأزرق”، قد أصدرت بيانًا مشتركًا، جددت فيه مطالبتها لفرنسا بتحمل مسؤوليتها التاريخية والقانونية، ورفع السرية عن جميع الوثائق المتعلقة بهذه التجارب، والبدء في تطهير المناطق الملوثة، وتعويض الضحايا. كما دعت الجزائر إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية الصحة العامة، وإشراك المجتمع المدني في جهود إعادة التأهيل.
وأوضحت المنظمات في بيانها أن هذه التجارب، إضافة إلى 40 تجربة نووية تكميلية أخرى، تركت إرثًا مأساويًا من التلوث الإشعاعي واسع النطاق، وأضرارًا صحية جسيمة على السكان المحليين، مشددة على أن آثارها لا تزال قائمة، حيث تشهد المناطق المتضررة ارتفاعًا مقلقًا في معدلات الإصابة بالسرطان والأمراض التنفسية المزمنة، إلى جانب التدهور البيئي المستمر الذي أثر بشدة على الموارد الطبيعية، وعطل سبل العيش، وأضعف النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات المحلية. وأشارت إلى أن هذه التجارب لم تقتصر على أضرارها الصحية والبيئية، بل امتدت إلى التأثيرات النفسية والاجتماعية التي عانى منها السكان لعقود، في ظل إهمال مستمر، وغياب الرعاية الطبية الكافية، والتأخير في الاعتراف الرسمي بحقوق الضحايا.
تعليقات الزوار
لا تعليقات