استقبلت قاعة العروض الكبرى بقصر الثقافة والفنون بطنجة عرض الفيلم الروائي "قصة وفاء" ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة 24 من المهرجان الوطني للفيلم.
تدور أحداث فيلم "قصة وفاء" للمخرج المغربي عبدالعالي طاهري حول قصة "ماجد"، وهو شخص ذو إعاقة يتم اختطافه من قبل البوليساريو خلال حفل زفاف في مدينة طانطان، حيث يُحتجز "ماجد" في مخيمات تندوف لمدة عشرين عامًا، بينما يواجه أصعب أنواع التعذيب والاستجوابات لكنه يظل متمسكًا بوطنيته وحبه ل"وفاء"، المرأة التي لم يفقد الأمل في العودة إليها، وبفضل مساعدة بعض الصحفيين يتمكن "ماجد" من كشف الفظائع التي تعرض لها في المخيمات، ما يؤدي في النهاية إلى تحريره وينتصر وفاؤه لوطنه.
الفيلم من إنتاج "نايس برود"، وسيناريو محمد ضهرا وإسماعيل طه، وتصوير علي بنجلون، وصوت سفيان حركي، وموسيقى عبدالفتاح نكادي، ومونتاج إلياس لخماس، وبطولة كل من محمد ضهرا ومحمد خيي وأمين ناجي وبنعيسى الجراري والبشير واكين وطارث الخالدي وأحمد شركي وبوجمعة الجميعي وهيام لمسيسي.
يعكس السيناريو التعقيدات السياسية التي تحيط بالصراع الطويل بين المغرب وجبهة البوليساريو، وهي قضية لا تزال تشكل جرحًا عميقًا في الذاكرة الوطنية، إذ تكشف الأحداث عن ممارسات الجبهة الوهمية التي تتسم بالوحشية والتعدي على حقوق الإنسان، ويظهر كيف يمكن أن تصبح السياسة أداة للقمع والظلم ضد الأبرياء، حيث تبرز متتالية المشاهد مدى تأثير هذه الأفعال السياسية على العلاقات الدولية، وكيف يتم استخدام المخيمات كوسيلة ضغط سياسية ضد المغرب، وأن استخدام الصحفيين لكشف هذه الجرائم يعكس أهمية الإعلام في مقاومة هذه الأفعال السياسية غير الإنسانية.
ويعالج تتابع الأحداث موضوع التفكك الأسري والآثار المدمرة التي يتعرض لها المجتمع المغربي جراء هذه الاختطافات من خلال زاوية شخصية "ماجد"، إذ يتم تصوير واقع الآلاف من الأسر المغربية التي تعيش حالة من الألم والمعاناة بسبب غياب أحبائها، والذين يجدون أنفسهم فجأة ضحايا لظروف لا يمكنهم السيطرة عليها، حيث يعكس هذا الواقع من خلال إظهار الألم الذي تعانيه "وفاء" الحبيبة التي تنتظر "ماجد" طوال عشرين عامًا دون أن تفقد الأمل في عودته، وهذه القصة تعكس مدى تماسك المجتمع المغربي في مواجهة الظلم، بينما يتمثل البعد الانساني في الصمود الجماعي والوحدة المجتمعية في مواجهة التحديات الكبيرة التي يفرضها الصراع السياسي.
وتشكل المعاناة النفسية جزءًا جوهريًا من السيناريو، حيث يتعمق في تصوير الضغط النفسي الذي تعرض له "ماجد" خلال سنوات احتجازه في مخيمات تندوف، وكيف عانى من الاستجوابات المتكررة والتعذيب الجسدي والنفسي، ومحاولات مستمرة لكسر إرادته، بينما يتمسك ماجد بوطنيته وبحبه ل"وفاء"، ما يعكس قوة الإنسان في مواجهة الضغوط النفسية الهائلة، وتتجلى أيضا المعاناة النفسية في لحظات الضعف التي يعيشها الأسرى ومواجهتهم مشاعر العزلة والضياع، ولكنهم يتمكنوا دائمًا من استعادة قوتهم بفضل إيمانهم الراسخ بوطنيتهم.
ويتميز الفيلم بأداء قوي للممثلين الرئيسيين كمحمد ضهرا وبنعيسى الجراري ومحمد خيي، حيث قدموا أدوارًا متكاملة عززت من قوة الفيلم وساهمت في نقله إلى مستوى درامي معقول، فالممثل محمد ضهرا الذي جسد شخصية ماجد استطاع أن ينقل بتلقائية معاناة الشخصية محققًا توازنًا بين العاطفة والصمود، حيث ظهر في لحظات ضعفه وقوته بشكل واقعي واضح، كما أن قدرته على تجسيد الألم النفسي والمعاناة الداخلية للشخصية كانت مقبولة للوضع الذي يعيشه، كما قدم بنعيسى الجراري دورًا مميزًا متجسدًا في شخصية ذات أبعاد معقدة، حيث ظهر بدور الرجل الذي يحيط ب"ماجد" ويحاول التأثير عليه، بينما أداءه القوي والإقناع في التفاعل مع باقي الشخصيات أضاف بعدًا آخر للشخصيات، إذ تشعر بتوتر العلاقة بينهما وتفاعلها المستمر.
ويكتمل الانسجام بحضور محمد خيي وأدائه المخضرم، مضيفًا ثقلًا دراميًا إلى الأحداث، إذ استطاع بخبرته الطويلة في هذا النوع من الافلام الوطنية أن يدمج بتقنية عالية بين الجوانب الإنسانية للشخصية والدور السياسي الذي يؤديه، ما خلق ديناميكية قوية ترفع مستوى التوتر الدرامي، كما أن تفاعلاتهم كانت سلسة وطبيعية وكأنهم عاشوا تجارب الشخصيات معًا.
وتميزت العناصر الفنية مثل المكياج المتقن والكوستيم الدقيق والموسيقى التصويرية، بقدرتها على تعزيز الجو العام للفيلم وإبراز الجوانب الدرامية للشخصيات والأحداث بشكل متكامل، فالفريق المكلف بالمكياج نجح في إبراز الإرهاق الجسدي والنفسي على وجه الممثلين، مع تفاصيل دقيقة مثل الكدمات والجروح التي جسدت مدى العنف والقسوة التي تعرضوا لها، هذه التفاصيل أضافت بعدًا واقعيًا للأحداث وأعطت الشخصيات طابعًا أكثر إنسانية، ما جعل المشاهد يتفاعل بشكل أقوى مع المعاناة التي يعيشها الأبطال، وتعبر ملابس الشخصيات والديكور المحيط بها عن بيئة المخيمات القاسية وعن الحياة البسيطة التي يعيشها المختطفون، ما ساعد على إبراز الشخصيات في إطارها الحقيقي دون مبالغة، سواء المختطفين أو الجنود، وهذا الاختيار الدقيق والوقوف على التفاصيل يعمق الفهم الدرامي للمشاهد.
وتبرز الموسيقى التصويرية لعبدالفتاح نكادي عنصرًا رئيسيًا في رفع مستوى التوتر والدراما في إيقاع الفيلم، وأضافت بعدًا عاطفيًا قويًا، حيث كانت متناغمة مع المشاهد الدرامية والمشاعر المتباينة التي تعيشها الشخصيات، إذ استطاع نكادي أن يمزج بين الإيقاعات الحزينة والمؤثرة وبين لحظات التوتر والتصعيد الدرامي، ما جعل الموسيقى تتحدث أحيانًا بدلاً من الحوار، مضيفة بذلك طاقة عاطفية قوية لكل مشهد.
نجح المخرج عبدالعالي طاهري في ترتيب المشاهد واللقطات بأسلوب فني ساهم في تعزيز قوة السرد الدرامي الحزين، إذ استطاع أن يخلق توازنًا بين تسلسل الأحداث وتطور الشخصيات، من خلال الاختيار الذكي للزوايا المختلفة ولإيقاع المشاهد أسهم في إبراز اللحظات المؤثرة، سواء تلك التي تعكس معاناة ماجد أو مشاهد الصراع والتوتر داخل المخيمات.
وأظهر مدير التصوير علي بنجلون كفاءة عالية في ضبط جودة تكوين اللقطات، إذ تمكن من استخدام الإضاءة والتكوين البصري بطريقة تضيف بُعدًا جماليًا للفيلم، مع الحفاظ على الواقعية القاسية التي تتطلبها القصة والتباين بين مشاهد الظلام التي تمثل القسوة والعزلة وبين مشاهد الضوء الخافت التي تعكس الأمل، أعطت الفيلم جاذبية بصرية مقبولة.
يتشابه فيلم "قصة وفاء" لعبدالعالي الطاهري مع فيلم "دموع الرمال" للمخرج عزيز السالمي، الذي صدر في عام 2018، حيث ينقل كلا الفيلمين معاناة المحتجزين المدنيين في تندوف، إذ يعرضان بشكل مؤلم صور الألم والتعذيب التي عاشها هؤلاء الأفراد، مُسلطين الضوء على صفحة دموية من تاريخ قضية الصحراء المغربية من خلال قصص مجموعة من الأشخاص الذين عاشوا مختلف أنواع المعاناة خلف أسوار السجون،على الرغم من صدور "دموع الرمال" قبل "قصة وفاء"، إلا أن كلا العملين يقدمان تجارب إنسانية عميقة ومؤثرة تستحق التسليط عليها.
تعليقات الزوار
لا تعليقات