نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريرا أعده سون راسموسن، حول الطريقة التي قتلت فيها إسرائيل القيادي العسكري في حزب الله، فؤاد شكر، الذي قالت إنه راوغ الأمريكيين على مدى أربعة عقود، أي منذ تفجير ثكنات المارينز في بيروت، والذي قُتل فيه 241 جنديا أمريكيا، وتقول واشنطن إنه ساهم في التخطيط له.
وفي نهاية تموز/ يوليو، قُتل شكر بغارة إسرائيلية على مبنى سكني في الضاحية الجنوبية لبيروت. وكان واحدا من المصنفين على قائمة الإرهاب الأمريكية، وأحد أهم مسؤولي حزب الله العسكريين، وصديق ومقرب للأمين العام حسن نصر الله.
ولعب شكر دورا مهما في تطوير ترسانة الحزب الصاروخية، وحوّل الحزب إلى أكثر جماعة “غير دولة” تسليحا في العالم.
ومنذ بداية الحرب على غزة قبل 11 شهرا، نسّق شكر المواجهات العسكرية ضد إسرائيل. وعلى الرغم من كونه أحد أهم الشخصيات العسكرية في تاريخ الحزب، فقد عاش حياة شبه خفية، ولم يظهر إلا في تجمعات صغيرة من قدامى المحاربين الموثوق بهم داخل الجماعة. ولم يظهر علنا إلا في وقت مبكر من هذا العام لحضور جنازة ابن أخيه الذي قُتل وهو يقاتل إسرائيل، لكن لبضع دقائق فقط، كما قال أحد معارفه.
وكانت حياة شكر سرية لدرجة أن وسائل الإعلام اللبنانية التي غطت الغارة نشرت صورة رجل آخر.
وقضى القائد العسكري الذين لم يكن معروفا للكثيرين من الناس، يومه الأخير في 30 تموز/ يوليو بمكتبه في الطابق الثاني من بناية سكنية بالضاحية الجنوبية لبيروت، حسب قول مسؤول في الحزب.
وكان يقيم في الطابق السابع من نفس المبنى لكي يختصر الحركة والحاجة للتنقل علنا. وقال نصر الله، إن شكر ظل على اتصال معه حتى الساعات الأخيرة قبل مقتله.
ويقول مسؤول في حزب الله، إن شكر تلقى مكالمة في ذلك المساء تطلب منه الذهاب إلى شقته الواقعة على بعد خمسة طوابق من مكتبه. وفي حوالي الساعة 7 مساء سقطت قنابل إسرائيلية على الشقة والطوابق الثلاث الواقعة تحتها، حيث قتل شكر وزوجته، وامرأتان أخريان وطفلان، وأصيب 70 شخصا، بحسب أرقام وزارة الصحة اللبنانية.
ويرى المسؤول أن المكالمة لشكر والتي طلبت منه الذهاب للطابق السابع، حيث كان من السهل استهدافه وسط البنايات المحيطة من شخص استطاع اختراق اتصالات حزب الله. ولا تزال إيران وحزب الله يحققان في الفشل الأمني، لكنهما تعتقدان أن إسرائيل تفوقت على قدرات الحزب في قدرات مكافحة الرقابة واستخدمت تكنولوجيا أفضل وقرصنة إلكترونية.
وتعلق الصحيفة أن قتل شكر، كان ضربة قوية لحزب الله الذي خسر أهم المخططين العسكريين الإستراتيجيين، وكشف عن مستوى اختراق عملياته.
وأدى مقتل شكر إلى جانب اغتيال زعيم حماس، إسماعيل هنية، في طهران لدفع منطقة الشرق الأوسط نحو حافة الحرب الشاملة، ومحاولة الولايات المتحدة لاحتواء الوضع.
وتقول كارميت فالينسي، الباحثة البارزة بمعهد الأمن القومي بتل أبيب، إن “الاغتيال ترك أثره المتراكم على القدرات العملياتية لحزب الله”، مضيفة: “كان شكر مصدر المعلومات، ويعرف كيف يعمل ويتواصل مع نصر الله”.
عاش شكر حياته كشاب في قلب عمليات حزب الله وصناعة القرار، وكان الحلقة الرئيسية بين الحزب وراعيته إيران. وساعد في 1982، حيث كان لا يزال في العشرينات من عمره، على تنظيم حرب العصابات للحزب في بيروت، ومواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وبعد حصار بيروت، انسحب شكر مع المقاومة إلى سهل البقاع شرقي لبنان، حيث اتصل مع 1,500 من عناصر الحرس الثوري الإيراني الذين اجتازوا الحدود من سوريا إلى لبنان.
وفي ذلك الوقت، كان شكر يعمل مع المديرية العامة للأمن العام في لبنان. وطُلب منه مرافقة مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين من الحدود السورية إلى السفارة في بيروت، وفقا لقاسم قصير، المحلل السياسي المطلع على حزب الله، والذي كان على معرفة مع شكر منذ أوائل الثمانينات.
واختُطف الدبلوماسيون في الطريق على يد القوات اللبنانية، وهي ميليشيا مسيحية، ولم يُرَ الوفد مرة أخرى، لكن شكر أُطلق سراحه بصفته موظفا في أمن الدولة.
وكان شكر المعروف باسمه الحركي، حاج محسن، نقطة الاتصال مع الإيرانيين والمعسكر الذي أقاموه في سهل البقاع لتدريب عناصر حزب الله، حسبما قال قصير الذي عمل في ذلك الوقت بالسفارة الإيرانية. وسافر شكر لاحقا إلى إيران للإشراف على قوات حزب الله.
وفي صباح 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1983، انفجرت شاحنة محملة بـ12,000 رطل من المتفجرات في ثكنات المارينز ببيروت. ولم يكن حزب الله قد أعلن عن نفسه بعد. وبدلا من ذلك، أعلنت حركة اسمها الجهاد الإسلامي المسؤولية. وفي مرحلة لاحقة، قالت الولايات المتحدة إن شكر لعب دورا في التخطيط وتنفيذ التفجير.
وفي عام 1985 أعلن حزب الله عن نفسه، وأصبح شكر أول قادته العسكريين، وواصل حرب العصابات ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب حتى نهايته عام 2000، وبرز اسمه كمفكر استراتيحي وقائد يعرف المنطقة.
وقال نصر الله في خطاب له عن شكر: “كنا نمزح في اجتماعاتنا ولقاءاتنا، ونقول إن آلة دماغه تعمل بسرعة رهيبة.. كان لديه كم واسع من الأفكار والمقترحات لدرجة كنا نقول له: سيدي عليك أن تكون صبورا معنا”.
وفي 14 حزيران/ يونيو، اختطفت مجموعة رحلة طائرة الخطوط الجوية “تي دبليو إي” رقم 847 بعد إقلاعها من مطار أثينا، وظلت تحلق ما بين بيروت والجزائر حيث طالب الخاطفون بإلإفراج عن 700 سجين في السجون الإسرائيلية. وقد ساعد شكر بتنظيم العملية حسب قول قاسم قصير، وبعد ذلك بفترة قصيرة، دخل العمل السري حيث انتشرت سمعته في كل أنحاء العاصمة بيروت.
وأصبح “الرجل الخفي” حسب الشخص الذي يعرفه. وقال هذا الشخص إن شكر حظي باحترام القيادة والجنود داخل حزب الله ولم يظهر إلا في مناسبات نادرة. ففي عام 1993 تدخل لإقناع عناصر حزب الله الذين تظاهروا في بيروت احتجاجا على اتفاقية أوسلو بالانسحاب لمنع حمام دم مع قوات الأمن اللبنانية. ويذكر أحد معارفه أنه رافقه عام 1996 برحلة حج إلى مكة، والتي تزامنت مع مقتل أكثر من 100 شخص في ملجأ تابع للأمم المتحدة في قرية قانا، حيث قاد شكر مجموعة من الحجاج وطافوا حول الكعبة وهتفوا “الموت لأمريكا” و”الموت لإسرائيل”.
وتركت حياة السر أثرها على شكر الذي لم يكن قادرا على لقاء معارفه وأصدقائه، لكنه استخدم الوقت المتوفر لمعاملة الأصدقاء والمقربين باهتمام كبير، كما يقول قصير. وكان وفيا لمن حوله من الأصدقاء الذي كبروا معه، بمن فيهم نصر الله الذي أصبح أمينا عاما للحزب عام 1992 بعد اغتيال سلفه.
وتقول حنين غدار، الزميلة البارزة بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: “كان على هؤلاء القادة العسكريين الكبار أن يعيشوا حياة سرية جدا، لا ظهور علنيا فيها، لا صور، وبالتأكيد لا تفاعل مع الآخرين في المجتمع الشيعي”.
وعندما اندلعت الحرب المدمرة عام 2006، لعب شكر دورا مهما فيها، حيث ساعد في عملية اختراق مقاتلين من الحزب الحدود مع إسرائيل وقتل ثمانية جنود واختطاف اثنين. وبعد الحرب، أشرف على تطوير ترسانة الحرب التي زادت قدرتها الصاروخية من 15,000 صاروخ إلى 150,000 صاروخ، بما فيها صواريخ مضادة للسفن وصواريخ كروز ومسيرات ومقذوفات. وأصبح نقطة الاتصال في الإمدادات الإيرانية عبر سوريا، حيث كانت يتم تحويل القطع المرسلة من إيران إلى صورايخ دقيقة، حسب الجيش الإسرائيلي.
وفي عام 2008، قُتل القيادي العسكري عماد مغنية في عملية مشتركة بين الموساد و”سي آي إيه”، عندما غادر حفل استقبال بذكرى الثورة الإسلامية، عُقد في دمشق، وعندما أدار سيارته انفجرت بسبب قنبلة زرعت في إحدى عجلاتها.
وفي عام 2016، قُتل قيادي آخر وهو مصطفى بدر الدين في دمشق أيضا بانفجار قنبلة. ولام حزب الله الجماعات السنية، إلا أن إسرائيل قالت إن مقتله جاء بسبب خلافات داخلية وبأمر من نصر الله.
لكن شكر بدا مرتاحا في السنوات الأخيرة، حسب قول قصير. فقد قُتل زملاؤه في دمشق وليس بيروت، المستبعد أن يتم تنفيذ عمليات اغتيال فيها. وبحسب قصير “تم الاتفاق على قواعد الاشتباك” بين إسرائيل وحزب الله، و”كانت هناك خطوط حمر”. وظلت القواعد قائمة حتى بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر، حيث أطلق الحزب الصواريخ ضد مواقع عسكرية إسرائيلية، وردّت إسرائيل بضرب أهداف عسكرية للحزب وقتل أكثر من 400 مقاتل، وعدد من القادة البارزين في الحزب.
ونظرا لقلق نصر الله من الخرق الأمني الذي مكّن إسرائيل من قتل عناصر الحزب، فقد أمرهم في شباط/ فبراير بالتوقف عن استخدام الهواتف النقالة: “اتركوا هواتفكم، عطلوها، ادفنوها وضعوها في صناديق حديدية”.
ولمنع التنصت الإسرائيلي، لجأ حزب الله إلى استخدام لغة مشفرة ليس فقط على القنوات المفتوحة، ولكن أيضا على شبكة الاتصالات الداخلية، كما قال مسؤول في الحزب.
وأصبح شكر في مرمى إسرائيل بعد الصاروخ الذي سقط على بلدة مجدل شمس بمرتفعات الجولان، حيث قتل 12 طفلا. ونفى الحزب مسؤوليته عن العملية، لكن إسرائيل حملته المسؤولية.
وقال مسؤول في حزب الله، إن الحزب أصدر أوامر في وقت مبكر في اليوم الذي استهدف فيه شكر، إلى كبار القادة العسكريين في المنطقة بالتفرق، وسط مخاوف من تعرضهم للخطر. وبعد الضربة، لم يتضح على الفور ما إذا كان شكر قد قتل. وقال المسؤول إن البعض في حزب الله اعتقدوا أنه ربما استجاب لأوامر الإخلاء وهرب. واستغرق الأمر بعض الوقت للعثور على جثته، حيث طارت إلى مبنى مجاور.
وخرج شكر في النهاية من الظل. وفي نعيه، وضعت صوره على الواجهات الإعلانية وتم بث لقطات عن حياته العسكرية في شاشات كبيرة. ودفن في مقبرة إلى جانب مقاتل قتل في سوريا، حسب والدة المقاتل. وقال جار شاب كان جالسا على عتبة بناية قرب المبنى الذي قتل فيه شكر: “سمعنا باسمه ولكننا لم نره أبدا.. كان مثل الشبح”.
تعليقات الزوار
لا تعليقات