مرت الجزائر بفترة مضطربة في التسعينيات تميزت بصعود الإسلام السياسي وعشرية سوداء مدمرة، وكانت الانتخابات التشريعية لعام 1991 في قلب هذه الأزمة. ففازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس) بنصر ساحق في الجولة الأولى، مما أثار الذعر بين النخب السياسية الجزائرية ودفع الجيش إلى وقف العملية الانتخابية لمنع الإسلامويين من الوصول إلى السلطة لما أعلنوه في برنامجهم من وقف للعمل بالدستور وتعويضه بالشريعة. تعرض هذا القرار لانتقادات شديدة آنذاك، لاسيما من اليسار الفرنسي، الذي رأى في هذا التوقف انتهاكًا صارخًا للمبادئ الديمقراطية.
كان اليسار الفرنسي في التسعينات ملتزمًا بشدة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وانتقد وقف العملية الانتخابية في الجزائر باعتباره خيانة للإرادة الشعبية. دعمت شخصيات سياسية وفكرية من اليسار الفرنسي فكرة أن احترام نتائج الانتخابات الديمقراطية ضروري، حتى لو كانت برامج الجبهة الإسلامية للإنقاذ تتعارض مع أفكارها. استند هذا الموقف إلى مبدأ أن الديمقراطية تتطلب احترام صوت الشعب، حتى عندما يؤدي ذلك إلى نتائج غير مرغوبة أو مقلقة للبعض.
كانت الحجج المقدمة تعتمد على الاقتناع بأن استبعاد الإسلاميين من العملية الديمقراطية لن يؤدي إلا إلى زيادة التطرف والعنف، وهو ما حدث بالفعل مع العشرية السوداء التي تلت ذلك، حيث دعا زعماء "الفيس" إلى رفع السلاح. رأى اليسار الفرنسي في هذا التوقف سابقة خطيرة يمكن من خلالها إبعاد الوسائل الديمقراطية بحجة الأمن القومي أو الحفاظ على العلمانية.
حتى اليوم شهدت السنوات الأخيرة صعودًا لليمين المتطرف في أوروبا، وهو ما أثار قلقًا كبيرًا داخل اليسار الفرنسي. كان المثال الأحدث والأبرز هو الانتخابات الأوروبية التي حققت فيها الأحزاب اليمينية المتطرفة نجاحات ملحوظة، فاكتسح اليمين المتطرف في فرنسا مثلا الإنتخابات. وأثار هذا التطور رد فعل قلق من اليسار، الذي يرى في هذا الصعود تهديدًا مباشرًا للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وفكرة أوروبا المتحدة والمتسامحة.
يثير التساؤل المطروح عن كيفية التوفيق بين هذه الردود وموقف اليسار في التسعينيات بشأن الجزائر. هذه الموازاة تثير نقاشًا معقدًا حول اتساق المبادئ الديمقراطية وكيفية تطبيقها في مواجهة حركات سياسية تعتبر خطرة أو معادية للديمقراطية.
مفارقة ظاهرة أم تكيّف ضروري؟
لفهم هذه التناقض الظاهري، من المهم فحص السياقات والتهديدات المحددة التي كانت تمثلها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في التسعينيات وتمثلها الأحزاب اليمينية المتطرفة اليوم في أوروبا. في التسعينيات، مثلث الجبهة الإسلامية للإنقاذ قوة إسلامية راديكالية ببرنامج يشمل تطبيق الشريعة، مما هدد بشكل مباشر الحقوق والحريات الديمقراطية. ومع ذلك، بالنسبة لليسار الفرنسي، كان الالتزام الديمقراطي يتطلب السماح للعملية الانتخابية بالمضي قدمًا.
أما اليوم، فيعتبر صعود اليمين المتطرف تهديدًا وجوديًا للقيم الأساسية للاتحاد الأوروبي مثل حقوق الإنسان والتضامن الدولي والشمول الاجتماعي. ترتبط الأحزاب اليمينية المتطرفة غالبًا بخطابات كراهية الأجانب والقومية والاستبدادية، مما يفسر القلق المتزايد لدى اليسار الفرنسي.
يمكن رؤية هذه الردود ليس كتناقض، بل كتكيّف مع طبيعة التهديدات المعاصرة. يمكن لليسار تبرير قلقه الحالي بالقول إن الأحزاب اليمينية المتطرفة، بمجرد وصولها إلى السلطة، قد تقوض المؤسسات الديمقراطية من الداخل، مما يضعف أساسات الديمقراطية التعددية التي تزعم الدفاع عنها.
ومع ذلك، تثير الوضعية تساؤلات أساسية حول اتساق وتطبيق المبادئ الديمقراطية. هل يمكن تبرير تقييد الديمقراطية لحماية الديمقراطية نفسها؟ يعتمد الجواب إلى حد كبير على المنظور والقيم التي ينظر منها كل واحد.
بالنسبة للبعض، فإن الاحترام المطلق للعملية الديمقراطية، بغض النظر عن النتائج، هو قيمة غير قابلة للتفاوض. بالنسبة للآخرين، قد تبرر حماية المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان اتخاذ تدابير استثنائية في مواجهة تهديدات تعتبر وجودية.
يُظهر النقاش حول موقف اليسار الفرنسي من وقف العملية الانتخابية في الجزائر وقلقه الحالي من صعود اليمين المتطرف في أوروبا التوترات والمفارقات المتأصلة في الدفاع عن الديمقراطية في سياقات تهديدات متنوعة. يبرز هذا النقاش ضرورة التفكير العميق في المبادئ التي ندافع عنها وكيفية تطبيقها في مواقف معقدة ومتعارضة في كثير من الأحيان.
يلخص هذا الوضع الصعوبات التي تواجهها اليسار الفرنسي في الحفاظ على موقف متسق في مواجهة التهديدات المتغيرة التي يفرضها المشهد السياسي العالمي. أكثر من كونه مفارقة، فإنها دعوة إلى نقاش مستمر حول القيم الديمقراطية وحمايتها في عالم دائم التغير.
تعليقات الزوار
لا تعليقات